صرح يخلد ذكرى تصدي الشعب التركي لمحاولة الانقلاب الفاشلة منتصف عام 2016 (AA)
تابعنا

خلال السنوات الست التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة قفزت تركيا قفزات مهولة على الأصعدة السياسية والدبلوماسية والعسكرية. فإلى جانب التغيرات الجذرية التي طالت الجيش وأعطت دفعة قوية للصناعات الدفاعية الوطنية، برزت أنقرة قوة دبلوماسية عالمية تمتلك مفاتيح الحل للعديد من القضايا الإقليمية والدولية، كان آخرها دور الوساطة التي لعبته ولا تزال تلعبه في الحرب الأوكرانية ومحاولتها إيجاد حل واقعي لأزمة الحبوب الأوكرانية.

ولم يقتصر التغيير والتجديد على سياسة تركيا الخارجية وحسب، بل امتد ليطال نظامها السياسي وسياستها الخارجية، فضلاً عن تطهير المؤسسة العسكرية من أعضاء جماعة كولن الإرهابية وإعادة هيكلتها بالشكل الذي يجعلها أكثر كفاءة وفاعلية على الساحات الإقليمية والدولية.

وانطلاقاً من المثل القائل: "الضربة التي لا تقتلك تزيدك قوة" خرجت تركيا أكثر قوة من ذي قبل، وخول الشعب التركي قيادته السياسية بالتخلص من العوائق التي كانت سبباً في كبح جماح النهوض بتركيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً والحد من نفوذها إقليمياً ودولياً، ومن أهمها تطهير الجيش وإعادة هيكلته، والانتقال إلى النظام الرئاسي لحكم البلاد، وانتهاج سياسة خارجية جديدة تضع مصلحة أنقرة فوق أي شيء آخر.

نظام سياسي جديد

من أهم التغيرات التي شهدتها تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التحول في شكل النظام السياسي من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي فقد وافق الناخبون الأتراك في استفتاء أجري في 16 أبريل/نيسان 2017 على تعديلات دستورية شملت 18 بنداً، كان أبرزها الانتقال من النظام البرلماني الذي دام العمل به قرابة 9 عقود إلى نظام الحكم الرئاسي الذي تكون لرئيس الدولة فيه قيادة البلاد وليس دوراً شرفياً فقط.

وفي 24 يونيو/حزيران من عام 2018 فاز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية ثانية، بعد فوزه عام 2014 في انتخابات رئاسة الجمهورية، التي تعتبر المرة الأولى التي ينتخب الشعب التركي رئيسه بشكل مباشر، ومنحت التعديلات الدستورية السلطة التنفيذية لرئيس الجمهورية، وخولته تعيين الوزراء بشكل مباشر.

وبفضل الاستقرار السياسي الذي أسس له نظام الحكم الرئاسي الجديد، تمكنت تركيا من تحقيق قفزات مهمة على العديد من الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتمكنت من تحقيق إنجازات عملاقة كان أهمها اكتشاف أكبر حقل للغاز الطبيعي في تاريخ البلاد بالبحر الأسود في أغسطس/آب 2020، وأخذ قرارات تاريخية كان أبرزها تحويل متحف "آيا صوفيا" بإسطنبول إلى مسجد في يوليو/تموز 2020.

تطهير الجيش وإعادة هيكلته

على غرار مؤسسات الدولة الأخرى شهدت المؤسسة العسكرية التركية، المتضرر الأكبر من المحاولة الانقلابية الأخيرة، أعمال تطهير كبيرة وواسعة لاستئصال أعضاء حركة كولن الإرهابية، نفذتها وزارة الداخلية والاستخبارات التركية، طالت قيادات كبيرة في مختلف فروع الجيش التركي، البرية والجوية والبحرية، بالإضافة إلى قوى الأمن المكونة من جهازَي الشرطة والجندرما. وحسب تصريح لوزير الدفاع التركي خلوصي أقار فقد أُقيل أكثر من 20 ألفاً من منتسبي القوات المسلحة التركية، معظمهم من الضباط والرتب العليا.

وبهدف منع تدخل الجيش في السياسة كما في السابق ومن أجل الحد من النفوذ الكبير الذي تمتع به منذ تأسيس الجمهورية وُضعت المؤسسة العسكرية تحت رقابة مجلس الدولة أسوة ببقية مؤسسات الدولة التنفيذية، وألغي المقعدان المخصصان للجيش في المحكمة الدستورية التي كانت تضم 17 مقعداً وتقرر محاكمة العسكريين فقط أمام محاكم عسكرية وإلغاء القانون العسكري الذي استخدمه الجيش سابقاً من أجل فرض الحكم العسكري على البلاد.

وبعد عملية إعادة الهيكلة والتطهير التي شهدتها المؤسسة العسكرية التركية أصبح الجيش التركي أكثر فاعلية على العديد من الساحات الإقليمية والدولية، وانطلقت عملياته خارج حدود تركيا بدءاً من عملية "درع الفرات" في الشمال السوري ضد تنظيم الدولة الإرهابي وعملياته العسكرية المتواصلة على تنظيم PKK الإرهابي في سوريا والعراق، مروراً بليبيا ومساهمته في قلب موازين القوى لصالح حكومة الوفاق الشرعية فضلاً عن حمايته للسيادة التركية شرقي المتوسط أمام الاستفزازات اليونانية، وصولاً إلى مساعدته أذربيجان في دحر الاحتلال الارميني من إقليم قرة باغ.

سياسة خارجية جديدة

وإلى جانب التغيرات التي طرأت على النظام السياسي في تركيا وإعادة هيكلة وتطهير الجيش التركي من إرهابيي كولن بعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو/تموز 2016، حظيت السياسة الخارجية التركية هي الأخرى بتغيرات جذرية وإعادة هيكلة لعلاقاتها مع القوى العظمى بالشكل الذي يحقق مصلحة أنقرة العظمى من خلال استغلال نفوذها في المنطقة فضلاً عن توظيف ديناميكية جيشها أفضل توظيف في الصراعات الإقليمية والدولية، على عكس المعمول به سابقاً والذي اقتصر على استخدامها للدبلوماسية فقط.

فبعد محاولة الانقلاب الفاشلة باتت سياسة تركيا الخارجية أكثر انفتاحاً على الفرص الجيوسياسية من أجل تعزيز نفوذها كقوة فاعلة على الساحة الدولية، ورغم تعرضها لعقوبات غربية وتهديدات بزيادة حدة العقوبات فقد حافظت على علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا بالحد الأدنى من دون انقطاع، ونجحت في بناء علاقات مثمرة اقتصادياً وسياسياً مع روسيا والصين.

وتحقيقاً لمصالحها قررت تركيا الحصول على منظومة دفاع جوي متطورة من روسيا بعد رفض الإدارة الأمريكية جميع المحاولات التركية من أجل شراء منظومة باتريوت الأمريكية، فضلاً عن تنفيذها خطوة سياسية متقدمة في ليبيا تمثلت بتوقيع اتفاقيتين مع الحكومة الليبية الشرعية أواخر عام 2019، إحداهما بحرية والأخرى أمنيّة دفاعية، كانت كفيلة بتغيير قواعد اللعبة شرقي المتوسط لصالح تركيا، بالإضافة إلى بدئها مفاوضات من أجل عودة العلاقات مع مصر ودول المنطقة.

وحالياً لا يقتصر دور أنقرة على دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا وحسب، بل لعبت بحرفية خلال جولة المفاوضات المكوكية لقبول طلبات السويد وفنلندا للانضمام إلى حلف الناتو، ما مكنها من نيل جميع ما أرادت، وتحديداً في ملفات مثل محاربة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم كولن الإرهابي، فضلاً عن رفع الحظر الذي يستهدف كبح جماح الصناعات الدفاعية الوطنية.

TRT عربي