تواصل الاحتجاجات في دول أمريكا الجنوبية على الرغم من الإصلاحات والوعود من الحكومات (AFP)
تابعنا

احتاجت أمريكا اللاتينية إلى شهر واحد كي تستعر نار الاحتجاجات فيها لتدق ناقوس الخطر. من بوليفيا إلى الإكوادور، ومن هاييتي إلى هندوراس، شهدت هذه الدول تظاهرات ضخمة، وعنيفة في بعض الأحيان، تؤججها مجموعة هائلة من المظالم التي تشمل تزوير الانتخابات والفساد، وأسعار الوقود والمواصلات العامة المرتفعة.

حتى تشيلي، التي يقال أنها واحة المنطقة الهانئة المزدهرة، وأحد نماذج الديمقراطية في تلك المناطق، ثارت في احتجاجات وأعمال شغب خلّفت 20 قتيلاً وأجبرت الرئيس سيباستيان بينييرا على إعلان حالة الطوارئ، وبات من الصعب اعتبار أي بلد من بلدان المنطقة مستقراً بحق.

بدا الأمر في البداية على أن الاحتجاجات في أرجاء القارّة تجري بأوامر من كوبا وفنزويلا، بل تذهب أصوات عديدة باعتقاد أن هذه الأنظمة الاشتراكية تريد لفت الأنظار بعيداً عن أزماتها الداخلية من خلال زعزعة استقرار ديمقراطيات المنطقة المحكومة من قِبل أحزاب اليمين المعتدل، مثل الإكوادور وتشيلي.

على سبيل المثال ووفقاً للصحيفة التشيلية "لا تيرسيرا"، فإن الشرطة التشيلية كشفت عن كوبيين ساعدوا في التحريض على هجمات عنيفة وقعت في محطات المترو في سانتياغو خلال أعمال شغب منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

لكن سواء كانت هذه الاحتجاجات بتدخّل أجنبي أم لا، فمعظم أمريكا اللاتينية كان يتهيأ للاحتراق سلفاً. بعد أن أدّت طفرة السلع في السنوات الأولى للألفية الحالية إلى ارتفاع التوقعات أكثر من أي وقت مضى، دخل الكثير من مناطق أمريكا اللاتينية فترة طويلة من النمو المخيب للآمال.

الفقر.. جوهر المعركة

بالعودة إلى بداية العقد الحالي، عندما كانت أمريكا الجنوبية تتفوق في الأداء على بقية مناطق العالم، فبفضل طفرة أسعار السلع، التي كانت بنسبة كبيرة نتيجة للطلب الصيني، شهدت اقتصادات المنطقة نمواً بنسبة 3.5% على أساس دخل الفرد بين عامَي 2003 و2013، وهو أفضل أداء تسجله القارّة منذ نصف قرن من الزمن.

كانت هذه الأرباح موزعة بشكل جيد نسبياً، إذ ارتقى أكثر من 100 مليون مواطن في أمريكا اللاتينية إلى مصافي الطبقة الوسطى خلال تلك الفترة، حسب البنك الدولي، وتمكّن الكثير من الأفراد من اقتناء السيارات والغسالات والشاشات الضخمة لأوّل مرة، وكانوا يتوقعون استمرار هذه الفترة الجيدة حتى المستقبل المنظور.

لكن الأمور لم تسر على هذا النحو. وفي النصف الأخير من هذا العقد، قاست فنزويلا أسوأ الانهيارات الاقتصادية خارج نطاق الحرب، وصمدت البرازيل أمام أطول كساد اقتصادي والأعتى في تاريخها، وعانت الأرجنتين أزمة نقدية وأزمة دين، بينما اختبرت بلدان تُعرف بمرونتها الاقتصادية مثل البيرو والمكسيك وكولومبيا معدلات نمو مخيبة للآمال.

تختلف التفاصيل الدقيقة من بلد إلى آخر، لكن قواسم مشتركة لهذا التدهور الإقليمي، لقد كان العديد من الحكومات اللاتينية تُعاني عجزاً كبيراً لا يُحتمل في الميزانية مع انتهاء طفرة السلع والفشل في التأقلم بما يكفي لطمأنة المستثمرين.

وأصاب الركود الإنتاجية في معظم أنحاء هذه البلدان، إذ سجلت نسبة استثمار هي الأضعف بعد منطقة إفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، فكانت النتيجة تجمُّد الرواتب، وانتشار الفقر والخروج إلى الشوارع.

"ضد الفساد ورموزه"

استبقت هذه التحركات في أمريكا اللاتينية موجة من فضائح الفساد بل وصلت إلى إيداع رؤساء سابقين للبرازيل والبيرو وغواتيمالا في السجن، ففي الاستطلاعات عادة ما تتلقى الأحزاب السياسية أدنى تقييمات الثقة الممنوحة لأي هيئة أو مجموعة كانت. كما أن المصوتين بدأوا يدركون بشكل متزايد أن الفساد ليس حكراً على السياسيين أو الأحزاب الفاسدة بل إنه يمتد إلى كل المنظومة.

يؤمن 57% من الأمريكيين اللاتينيين فقط بأن الديمقراطية هي "أفضل أشكال الحكم"، حسب استطلاع أُجري مؤخراً من قِبل مشروع الرأي العام الحر الأمريكي اللاتيني في جامعة فاندربلت، إذ بلغت النسبة من 66% إلى 70% في العقد الذي سبق عام 2014.

وحسب القائمين على هذه الاستطلاعات فإن النتائج لا تعني أن الناس يرغبون في عودة الديكتاتوريات العسكرية التي هيمنت على المنطقة في سبعينيات القرن الماضي، لكن تعني أن المصوتين يلجأون بوضوح إلى زعماء مدنيين "أقوياء" مثل الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور والرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، وكلاهما وصل إلى سدة الحكم عبر قطع وعود سهلة لم يتمكّنا من الوفاء بها حتى اللحظة.

الإصلاح والمهمة المستحيلة

إن كانت أمريكا اللاتينية تريد استرجاع رخائها النسبي الذي نعمت به في بداية سنوات الألفية، فلا بد أن تتسم أجندة الإصلاحات بالطموح، أي أن تتخطى الإجراءات المعتادة الشائعة في الأنواع المؤيدة للأعمال التجارية، مثل إصلاحات الضرائب والصفقات التجارية.

وحسب مويسيس نايم وبريان وينتر الكاتبان في فورين بوليسي، فإن الانتظار أكثر سيتسبب في اتساع رقعة الاحتجاجات، الأمر الذي يحتم على القادة في أرجاء المنطقة تحديد أقصى أولويتين أو ثلاث لبلدانهم.

كما يرى الكاتبان أن على هؤلاء القادة عقد تحالفات واسعة لمواجهتها، فالفشل المزمن في قطاع الرعاية الصحية والأمن والبنية التحتية والتعليم يعوق نمو الاقتصاد في معظم أنحاء المنطقة. ولحل هذه المشكلات على نحو فعال، يجب أن تتضافر جهود الحكومات والأعمال التجارية والمجتمع المدني.

قد يكون الإصلاح الواسع والطموح محض إسراف في التمني، حسب ما وصل إليه الكاتبان خلال استنتاجاتهما، لكن المنطقة لا يمكنها ببساطة انتظار طفرة سلع أخرى أو موارد سحرية جديدة للنمو.

فعدم التدخل السريع سيؤدي فقط إلى الدخول في دورة تُبطئ الاقتصاد وتقلل الإيمان بالديمقراطية وتؤدي إلى صعود الزعماء الشعبويين، كما كانت الدورة التي زجت بأمريكا اللاتينية في أتون الديكتاتوريات العسكرية القمعية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً