تابعنا
بدأت نقطة التحول في قضية المقاومة الشعبية بعد أن أقدمت قوات الدعم السريع على اجتياح مدينة ود مدني (200 كيلومتر شمال العاصمة الخرطوم) في نهاية العام الماضي، ثم تدفقت تلك القوات لتستولي على مساحات واسعة من ولاية الجزيرة بوسط السودان

يدور في أروقة السياسة جدل ساخن بين مؤيدي فكرة المقاومة الشعبية ورافضيها، وكلٌّ يتمسك بمواقفه، والفكرة التي يدور حولها الجدل الآن بدأت منذ الشهور الأولى للحرب، حين دعا القائد العام للجيش السوداني قدامى المحاربين والقادرين على حمل السلاح للتوجه إلى المناطق العسكرية لإسعاف الجيش الذي بدا أنه يعاني نقصاً حاداً في قوات المشاة.

وكشفت تقارير متواترة أن الجيش السوداني قد وقف التجنيد لسنوات واعتمد على قوات الدعم السريع لمكافحة التمرد في مناطق دارفور المختلفة، ومكّنها من التجنيد حتى فاقت أعداد قوات الدعم السريع -وهي قوات شبه عسكرية- 100 ألف جندي.

بدأت بقوات تُدعى حرس الحدود، ثم تطورت لتصبح قوات شبه نظامية لها قانون صدر عام 2017، ومن ثم ساهمت الدولة في تسليحها وأتاحت لها فرص تدريب واسعة ومشاركات في مهمات خارجية أكسبتها علاقات وموارد ضخمة، إضافة إلى عملها في مجال الاستثمارات والتجارة عبر شركاتها المتعددة، لا سيّما فى مجال الذهب.

تتسم المقاومة الشعبية المسلحة بثلاث سمات أساسية، يمكن إذا ما وظفتها التوظيف الصحيح أن تؤهلها للعب أدوار حاسمة في التأثير في مجريات الحرب، أولها أنها تعتمد على مواردها الذاتية في تمويل نفسها، وهذا يساهم في دعم مادي مباشر للمجهود الحربي

المقاومة الشعبية

الاستجابة لدعوة قائد الجيش للاستنفار في البداية كانت محدودة، والذين سارعوا للانضمام إلى معسكرات الجيش ظلوا دون تدريب أو تسليح كافٍ لخوض المعارك المشتعلة في العاصمة السودانية الخرطوم في الأشهُر الثلاثة الأولى، مما أحبط الفكرة وجعل تدفق المستنفرين يتضاءل شيئاً فشيئاً.

بدأت نقطة التحول في قضية المقاومة الشعبية بعد أن أقدمت قوات الدعم السريع على اجتياح مدينة ود مدني (200 كيلومتر شمال العاصمة الخرطوم) في نهاية العام الماضي، ثم تدفقت تلك القوات لتستولي على مساحات واسعة من ولاية الجزيرة بوسط السودان.

وصاحبت هجماتها عمليات قتل ونهب واسعة لممتلكات المواطنين والدولة على حد سواء، ومنذ تلك اللحظة بدأ نداء المقاومة الشعبية المسلحة في منطقة الجزيرة يتصاعد وسرعان ما جرت دعوة المواطنين لحمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم ومدنهم وقراهم وأعراضهم.

ثم تواصلت الدعوات لمجموعات من المستنفرين في ولايات أخرى كانت قد بدأت تدريب الآلاف من الشباب في معسكرات الجيش، وعمّت الدعوة أغلب أقاليم السودان الشمالية وتدفق الآلاف من المواطنين والشباب استجابة للاستنفار العام.

وفي وقت تصاعدت فيه الاستجابة الكثيفة لدعوة الاستنفار وحمل السلاح تحت اسم "المقاومة الشعبية"، ظلت الدولة صامتة لفترة من الزمن إلى أن أعلن قائد الجيش الرئيس البرهان تحت الضغط الشعبي انحيازه للمقاومة الشعبية، إذ أعلن يوم 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي في مدينة سواكن شرق السودان دعمه للمقاومة الشعبية المسلحة، وأمر بتسليح كل من يستطيع حمل السلاح لمواجهة قوات الدعم السريع التي توسعت في ولايات أخرى خارج العاصمة الخرطوم.

وطالب الرئيس البرهان في الخطاب ذاته بتنظيم المقاومة تحت قيادة القوات المسلحة، حتى لا تنفلت لتلد مشكلة أخرى أشد خطراً، ووعد بتسليحها.

لكن وعود الدولة بتسليح المواطنين للدفاع عن أنفسهم اتسمت بمحدودية وبطء شديدين، مما دفع بعض الأقاليم إلى المسارعة في جمع التبرعات من الأهالي لتتسلح المقاومة من دون انتظار سلاح الحكومة، خصوصاً أن المخاوف من سيطرة قوات الدعم السريع على مناطق أخرى في الإقليم الشرقي وإقليم النيل الأبيض تتصاعد بسرعة مذهلة.

كان منطق الذين أطلقوا دعوة المواطنين لحمل السلاح أو ما سُمي بـ"المستنفرين" الذين شكلوا المقاومة الشعبية المسلحة أن الجيش الذي يقاتل على امتداد مساحة السودان 860 ألف كيلومتر مربع ليس بوسعه الدفاع عن المواطنين في كل قرية وبلدة ومدينة في تلك المساحة الشاسعة.

كما أن بعض وحدات الجيش العسكرية محاصرة، ويعاني أصلاً من نقصٍ في قوات المشاة وعدم قدرة على إيصال الإمدادات إلى المناطق التي تحتاج إليها، بسبب سيطرة قوات الدعم السريع على كثير من الطرق الرئيسية، إضافة إلى أن الجيش نفسه يعاني من نقص في إمدادات السلاح.

وسط مخاوف واسعة انتابت المواطنين بسبب ما شاهدوه من حملات ترويع وقتل واغتصاب قامت بها قوات الدعم السريع في مناطق أخرى في غرب السودان وعاصمته الخرطوم ومدينة ود مدني بوسط البلاد، لكل هذه الأسباب وجدت الدعوة إلى المقاومة الشعبية المسلحة استجابةً كبيرةً من المواطنين في ولايات شمال السودان ووسطه.

وعلى الجانب الآخر رفضت القوى المدنية المعارضة في الخارج دعوات الاستنفار العام، ووقفت ضد تأسيس المقاومة الشعبية، معلنة أن تلك الدعوات من شأنها تأجيج الصراع العسكري في وقت تتبنى فيه هي الحوار تحت شعار "لا للحرب"، وقالت إن هذه الدعوة لتسليح المواطنين يمكن أن تشعل حرباً أهليةً في البلاد بين مكوناتها القبلية والإثنية وقد تؤدي إلى تقسيمها.

ودعت ما عُرفت بتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) إلى حصر السلاح في الدولة باعتبار أن الدول هي وحدها التي يجب أن تحتكر أدوات العنف.

سبب ثالث وهو الأهم، تعتقد المعارضة أن الإسلاميين (أعداءهم الاستراتيجيين) يسعون من خلف دعوات الاستنفار إلى تصعيد الحرب للعودة إلى السلطة.

المقاومة ومستقبل الحرب

بالاستجابة الواسعة للاستنفار من قبل طوائف وقطاعات مختلفة من الشعب، أصبحت المقاومة الشعبية المسلحة عنصراً مهماً في الصراع بين الجيش والدعم السريع، إذ بدا الآن أن الجيش لا يحارب وحده، إنما خلفه الملايين الذين يساندونه في الحرب، إضافة إلى أن المقاومة بدأت تدعم مادياً وحدات الجيش المختلفة، كما بدأت تنظم نفسها وهياكلها مما يجعل دعمها وتأثيرها في الحرب أكثر فاعلية.

تتسم المقاومة الشعبية المسلحة بثلاث سمات أساسية، يمكن إذا ما وظفتها التوظيف الصحيح أن تؤهلها للعب أدوار حاسمة في التأثير في مجريات الحرب، أولها أنها تعتمد على مواردها الذاتية في تمويل نفسها، وهذا يساهم في دعم مادي مباشر للمجهود الحربي، لا سيّما أن الدولة تعاني عجزاً كبيراً في ميزانيتها عام 2024.

كما تراجعت الإيرادات من العام الماضي إلى أقل من الثلث، ويتوقع أن ترتفع قليلاً هذا العام، لكن مع زيادة أعباء الصرف العسكري ستعاني من عجز مريع في إيراداتها، وكانت الأمم المتحدة أعلنت أن الاقتصاد السوداني تراجع بنسبة تصل إلى 42% نتيجة تضرر مرافق التصنيع وتدمير البنية التحتية بسبب الحرب، ليؤدي ذلك إلى بطالة جماعية.

السمة الثانية أنها تمتلك الحافز للقتال دفاعاً عن مواطنيها، أموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم، في المقاومة الشعبية المسلحة تتأسس وتعمل بصورة مناطقية، فيتكون لها ولاء وحوافز أكثر للدفاع عن تلك المناطق.

يعرف أهل المناطق المهددة جغرافياً مناطقهم وطرق الوصول إليها مما يمكنهم من التخطيط الجيد للدفاع عنها بصورة أفضل، في وقت لا تتوفر فيه لقوات الدعم السريع ميزة المعرفة بجغرافيا شمال البلاد، إذ إن أغلب أفرادها لم يخوضوا أي معارك في شمال وشرق السودان.

وأكثر ما يميز المقاومة الشعبية المسلحة هو حشدها لسكان المناطق للدفاع عن مناطقهم من دون فرز جهوي أو إثني، فالآن مثلاً تنخرط كل الإثنيات فى صفوف المقاومة الشعبية المسلحة في كل أقاليم الشمال والشرق والوسط التي تسكن فيها كل أعراق السودانيين، مما يجعل المقاومة عنصر وحدة يغذي ويساهم في الترابط القومي وتقوية النسيج الاجتماعي.

عدة مخاطر تحيط بالمقاومة الشعبية المسلحة، فهناك خوف من أن ينفلت السلاح وينتشر بلا ضابط بين المواطنين، مما يجعل السيطرة عليه مستقبلاً مستحيلاً، وفي ذلك خطر كبير، وهناك تخوف أيضاً من أن تستغل جهات ما المقاومة وتجيّرها لصالح أجندتها السياسية وبرامجها.

لذلك، ولكي تنجح المقاومة الشعبية في أداء مهمتها في فترة محددة ومهمة محدودة وهي الدفاع عن الأهالي في مَواطنهم، فهي بحاجة إلى تنظيم هياكل وتأسيس قيادة موحدة لها، وكذلك يلزمها وحدة الهدف والدافعية، وهذه العوامل تحدد بشكل حاسم مقدرتها على الصمود وسط المتغيرات المحلية والعالمية حتى تحقق أهدافها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً