تابعنا
لم يكن مستغرباً تفجر الأوضاع بين السودان وإثيوبيا حول منطقة الفشقة الحدودية لوجود خلافات قديمة يمتد عمرها إلى ما يزيد على 50 سنة خلت

ظلت المنطقة الواقعة على حدود البلدين غير مرسمة دون غيرها من الحدود البالغة 744 كيلومتراً رغم كل الجهود المبذولة في ترسيمها من دون جدوى.

أثيرت المناقشات حول الحدود عام 1998م لأول مرة بين البلدين بعد اشتباكات عسكرية انسحب على أثرها الجيش السوداني من المنطقة، تاركاً مليون فدان من الأراضي الخصبة للزراع الإثيوبيين.

وفي عام 2008م توصل الطرفان إلى اتفاق مبدئي اعترف فيه الجانب الإثيوبي بسيادة السودان على المنطقة. ولكن يبدو أن الطرفين اتفقا سرّاً على استمرار استخدام الإثيوبيين للأراضي، وذلك بسبب رغبة السودان في اسكات الجبهة الإثيوبية حتى يتفرغ للجبهات الأخرى في الغرب والجنوب.

النزاع بين السودان وإثيوبيا على الفشقة (AA)

فما الذي فجر الموقف فجأة مؤخراً، ودفع السودان إلى هذا التصعيد المفاجئ؟ ومن يقف وراء هذه التداعيات؟ وهل لأطراف أخرى علاقة؟ وما اتجاهات تطور الأحداث؟

تصعيد السودان ودوافعه

تتعدد الأسباب التي تقف وراء التصعيد السوداني المفاجئ عند الحدود مع إثيوبيا، إذ الأسباب الظاهرة والمواقف المتباينة ذات صلة بالأوضاع الداخلية وصيرورة الأحداث بين أطراف الحكم الداخلية، والأطراف المحركة لها في الخارج. ويمكن رصد بعض العوامل في هذا الصدد أهمها:

أولاً: رسائل خارجية، إذ أصدر الكونغرس الأمريكي في ديسمبر/كانون الأول الماضي قانوناً تحت اسم "قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية لعام 2020"، الذي يهدف بالدرجة الأساسية إلى تحجيم دور المؤسسة العسكرية السودانية وقوات الدعم السريع إلى جانب تعزيز وتقوية الشق المدني في الحكومة الانتقالية بنقل الشركات التابعة له إلى سيطرة المدنيين. ورسالة الجيش هنا واضحة بأنه أقوى من أن تضعفه القرارات، وأنه يستمدّ قوته من دعم الشعب السوداني الذي أظهر تأييداً يحقق للجيش هذا الهدف.

ثانياً: رسالة إلى الإثيوبيين بأن الجيش السوداني الذي انسحب في عهد البشير من الفشقة قادر على استرداد أراضيه وفرض سيادته عليها بالقوة القاهرة. وتجدر الإشارة إلى تخوفات السودان من استيطان الإثيوبيين ورفض الأمهرا للحدود الدولية التي رسمها المستعمر في 1902م ، بخاصة أنها تحتاج إلى بناء خطوط تأمين لسد النهضة.

ثالثاً: السياق الداخلي في إطار الصراع بين المدنيين والعسكريين ومحاولات المدنيين للاستقواء بالخارج، مما يدفع القيادات العسكرية إلى خطوات تثبت حضورهم وأهميتهم ورجاحة كفّتهم في معادلة الحكم راهناً ولاحقاً، إضافة إلى سحب نسبة معتبرة من مؤيدي القوى المدنية لصالح الجيش.

رابعاً: يشكّل التصعيد على الحدود فرصة يحاول الجيش السوداني توظيفها في ظل انشغال إثيوبيا بالحرب في إقليم التيغراي، ووضعها أمام الأمر الواقع، تحت مبررات مماطلة إثيوبيا في حسم الترسيم، ومحاولة تحقيق أكثر من هدف في أكثر من مرمى.

أياً كان الأمر فإن الملاحظ هو أن أجواء التوتر واضحة وظروفها مهيأة، بخاصة أن البلدين يمران بحالة حراك داخلي كبير لم تستقرّ على حال، إضافة إلى توافر عوامل خارجية مساعدة على تصعيد الأمر، وسيولة الأوضاع على مستوى الإقليم تدفع السودان على وجه التحديد إلى رص كل القوى خلف الجيش لتجاوز المماحكات الداخلية وتوجيه بوصلة المرحلة إلى الخارج.

ردود الفعل الإثيوبية

إزاء التصعيد السوداني فإن الجانب الإثيوبي قد استبق الأحداث ووجه اتهامات مباشرة إلى السودان بانتهاكه السيادة الإثيوبية، وأنه يعمل بوابة عبور للأجندة المصرية. ومما زاد الأمر سوءاً تصريحات الجانب المصري الذي عبّر عن دعمه للجانب السوداني وتأييده لموقفه.

كما اتهم الإثيوبيون السودان باستغلال الحرب الدائرة في التيغراي ليقوم بهذا التصعيد في وقت تعمل فيها اللجان المعنية في تسوية الملفات بين البلدين.

خيارات السودان إزاء الأزمة

يتضح من السياق أن الجيش السوداني حسم الجدل حول الفشقة مؤقتاً، وبعث برسائل إلى عدة جبهات، مؤكداً دور الجيش في كل المعادلات والملفات التي تربط بين البلدين. ولكن ما الخيارات أمام السودان بعد هذه التطورات على أرض الواقع؟

أولاً: حقّق الجيش السوداني نصراً وأعاد الاعتبار إلى السودان كبلد ذي سيادة وحسم الأمر تجاه فرض سيادة السودان على هذه المنطقة المتنازع عليها. ومما لا شك فيه أنه سيعمل على تعزيز هذه المكاسب بمزيد من التعزيزات العسكرية حماية لهذا المكتسب، ويبدو أنه لن يتردد في خوض حرب مع إثيوبيا على الرغم من ضعف هذا الاحتمال.

ثانياً:تهدئة الأوضاع مع إثيوبيا بغية الوصول إلى حلّ دبلوماسي للأزمة، والعمل على تنشيط اللجان المشتركة. ويستبعد تماماً أن يقبل السودان أي انسحاب للجيش إذا ما طلبته إثيوبيا شرطاً للتفاوض.

ثالثاً: تأكيد حيادية السودان في النزاعات الإثيوبية، ربما بالاستجابة للتعاون معها في ملف إقليم التيغراي، بخاصة أن ما يزيد على 50 ألف لاجئ من الإقليم موجودون داخل السودان.

ستكون اللغة الدبلوماسية هي الغالبة في المرحلة التالية تفادياً لأي مواجهات مع إثيوبيا التي حشدت جيشها في أربعة محاور قبالة الحدود مع السودان، يدعم هذا ثقة السودان في سلامة موقفه وقناعته بضرورة ترسيم الحدود، وليس التفاوض على حدود معروفة ومعترف بها حتى من قبل الإثيوبيين أنفسهم.

مستقبل الأزمة بين البلدين

بعد تصعيد السودان الموقف في الفشقة وفرض السيطرة عليها، سارعت الأطراف المعنية إلى اعتبار أن خيار التفاوض هو المسار الذي يجب أن يسلكه الطرفان، وأن الروابط والعلاقات بين البلدين تسمح بتجاوز هذه المشكلة، ولكن بطبيعة الحال كل طرف يعمل على حشد كل الأوراق التي يملكها من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب.

ولكن يجب كذلك ملاحظة أن البلدين يمران بمرحلة انتقالية هما فيها بحاجة إلى ترتيب كثير من الملفات ومعالجة القضايا الداخلية.

سيمضي السودان في تعزيز صورته على المستوى الداخلي والخارجي وتحشيد الشعب خلف الجيش باعتباره أقوى الجهات القادرة على الخروج بالبلاد والانتقال به إلى المرحلة الدستورية، وأنه عصيّ على الإقصاء والتهميش، سواء بعوامل داخلية أو بأخرى لها صلة بالخارج، وهو قادر على التصدي للمهامّ الكبيرة. ولكن تظلّ الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات، لارتباط الأمر بصيرورة وحركة الأحداث على المسرح السياسي.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً