مؤيدو لروسيا يحتفلون إثر إعلان روسيا اعترافها باستقلال جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك (Alexander Ermochenko/Reuters)
تابعنا

هذا الإعلان ستكون له تداعيات كبيرة في ظل السيولة الذي نعيشها منذ نهاية حقبة القطب الأمريكي الواحد، بشكل غير رسمي قبل سنوات، ثم رسمياً قبل أشهُر قليلة، التي كانت بدورها قد أعقبت حقبة القطبين الأمريكي والسوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بدورها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، وانفصال أوكرانيا وجمهوريات عديدة عنه قبل ثلاثة عقود تقريباً.

إذ وجَّه بوتين مساء الاثنين خطاباً إلى الشعب الروسي، أعلن في ختامه الاعتراف رسمياً بالجمهوريتين الانفصاليتين دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا، كما وقّع مباشرةً على اتفاقيات صداقة وتعاون ومساعدة متبادَلة معهما.

الرئيس الروسي اعتبر في خطابه أيضاً أن أوكرانيا نفسها كانت دوماً جزءاً من روسيا، وأنها تحولت الآن إلى مستعمرة أمريكية، فيما تحولت مراكز تدريب حلف الناتو فيها إلى ما يشبه القواعد العسكرية، في مخالفة حتى للدستور الأوكراني، حسب اعتقاده، مؤكّداً في السياق نفسه رفض انضمام كييف رسمياً إلى الحلف، في الوقت الذي توسع فيه الحلف شرقاً، ومُصِرّاً على المطالب الأمنية الأخرى الخاصة بابتعاد الحلف وقواته وقواعده عن حدود روسيا، بما في ذلك منطقة شرق أوروبا بأكملها.

إعلان بوتين بديلاً من تحريك الدبابات

إعلان بوتين أثار تساؤلات فورية عما إذا كان يمثّل إعلان حرب بحد ذاته، بخاصة مع عزمه نشر قوات سمَّاها "حفظ سلام روسية" في الجمهوريتين الانفصاليتين، وهي قطعاً في الطريق إليهما. فبوتين يرى أن في إعلانه انتهاءً للتصعيد، أو على أقلّه مرحلياً، في ظلّ القناعة بتحقيق الهدف الذي سعى إليه أساساً عبر الحشد العسكري والتهديد بغزو أوكرانيا، بمعنى الحصول على دونيتسك ولوغانسك وقضم أراضي أوكرانيا وإضعافها، وفي السياق نفسه جعل فكرة انضمامها إلى حلف الناتو مستبعَدة، وحتى مستحيلة وجزءاً من الماضي.

يعني الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين وتوقيع اتفاقيات معهما، بخاصة في السياق الأمني، مقدرة وإمكانية أن ترسل روسيا قوات إليهما، وهو ما حصل فعلاً، وهي ستكون عملياً في قلب أوكرانيا، ما يكفل من جهة أخرى استيلاء روسيا على ثلث أراضي هذه الأخيرة تقريباً، بخاصة إذا ما تَذكَّرنا ضمّ روسيا رسمياً شبه جزيرة القرم الأوكرانية قبل ثماني سنوات تقريباً.

وإذا مثّلَت الخطوة الأخيرة الهدف الروسي المركزي بحدّ ذاته فهذا يشير إلى قناعة بوتين بأن العقوبات الغربية التي تم إعلانها فعلاً، ستكون موجهة أساساً ضدّ دونيتسك ولوغانسك، تماماً كما كان الحال مع جمهورية أبخازيا الجورجية، التي أُعلنَت من جانب واحد وبنفس الطريقة قبل عقد ونصف تقريباً لا ضد روسيا نفسها.

وحتى إذا ما تم فرض عقوبات أمريكية وأوروبية ضد روسيا، فهي ستشبه تلك قد تعرضت لها بعد ضمِّها شبه جزيرة القرم، وهذه أيضاً يمكن تحمُّلها إذا ما تمّ إعطاء الانطباع بإزاحة فكرة غزو أوكرانيا عن جدول الأعمال -ولو مرحلياً- علماً بأن العقوبات السابقة لم تمنع أصلاً استمرار العلاقات والحوار مع الغرب والناتو بشكل عامّ، وحتى المشاريع الاقتصادية العملاقة مع روسيا كما هو الحال مثلاً في مشروع "نورد ستريم" العملاق لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى المانيا وأوروبا.

من جهة أخرى فإن الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين شرق أوكرانيا وإعلان توقيع اتفاقات معهما يعني بالتأكيد نهاية اتفاقية مينسك للسلام التي اعتبرها بوتين غير ذات جدوى، وأنهما باتتا تحت الحماية الروسية، ونظرياً يمكن افتعال أي نزاع مع أوكرانيا وإرسال قوات روسية تحت عَلَمَي الجمهورتين تأخذ على عاتقها غزو واحتلال أوكرانيا إذا ما قرّر بوتين ذلك، ودون أن تنخرط موسكو بشكل مباشر وعلني، بخاصة أنها أنكرت حتى الأمس القريب وجود قوات لها هناك، الأمر الذي فضحه حكم محكمة روسية في نزاع قضائي تقليدي هناك.

بناءً عليه، وبشكل تمهيدي وأوّلي، وفي ضوء ما يتوفر من معلومات وردود أفعال وتطورات على الأرض، يمكن استنتاج أن الاحتمالين متساويان -ولو نظرياً- بخاصة بعدما حصل بوتين على غنيمة كبرى ومُرضِية، ولا شيء يدفعه إلى ارتكاب الحماقة الكبرى باحتلال أوكرانيا، والمجازفة بالتعرض لعقوبات غربية قاصمة وحتى الاستنزاف أو الغرق في الوحل الأوكراني وعلى عدة مستويات سياسية واقتصادية وأمنية.

مع ذلك فهو قد يحاول إبقاء هذا السيف -الغزو- مُصلَتاً دائماً فوق رقبة أوكرانيا، وحتى أوروبا والغرب وحلف الناتو، على أقلّ تقدير لتقوية موقف بلاده في أي مفاوضات محتمَلة ثنائية أو جماعية حول الأمن ومناطق النفوذ في المنطقة وأوروبا والعالم.

وسيجعل ذلك على الأغلب ضمَّ أوكرانيا إلى الحلف أمراً مستبعَداً ومستحيلاً، وحدوثه يمثِّل إعلان حرب من طرف كييف والغرب والناتو، لا بوتين وموسكو.

تَشكُّل نظام دولي جديد

وعموماً أيّاً كان الاحتمال الذي ستذهب إليه الأمور فللحدث الأوكراني بُعد عالمي أو أممي جوهري وكبير، إذ يمكن اعتبار تصرُّف بوتين الأخير بمثابة إعلان سياسي رسمي آخر -بعد الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان- عن نهاية حقبة القطب الأمريكي الواحد التي أعقبت مرحلة القطبين الغربي والشرقي أو الأمريكي والسوفييتي التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية (1945)، وانتهت مع انهيار الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثة عقود تقريباً، وعموماً فإن الحقبة الأحادية الأمريكية أُسدِلَ الستار عليها أصلاً بقرار أمريكي متفَق عليه داخلياً في الساحة السياسية والحزبية، سواء كان جمهورياً أو ديمقراطياً "من الجدار إلى الجدار"، تَمثَّل ذلك بالانسحاب من العراق، أو للدقة: إعادة الانتشار وتغيير مهامّ القوات فيه من القتال إلى التدريب ثم الانسحاب التامّ. وكذلك ما حدث في أفغانستان، الذي كان بمثابة إعلان رسمي لا لبس فيه عن نهاية حقبة القطب الأمريكي الواحد التي استمرت لثلاثة عقود تقريباً.

غير أن المرحلة الجديدة التي نشهدها الآن، أو بدأت للتوّ، لم تتضح معالمها النهائية بعد، إلا أنها ستكون تعددية حتماً لا ثنائية كما يريدها بوتين، كون هذا الأمر بات أصعب بوجود الصين الأقوى من روسيا على المستويات كافة، بخاصة الاقتصادية والاستراتيجية، والتي تعتبرها أمريكا العدوّ الأكبر والأخطر، وهذا ما يدركه بوتين ويسعى للاستفادة منه. وعموماً فإن التعددية ستكون حاضرة في أوروبا وآسيا وحتى في إفريقيا مع تقهقُر النفوذ الأوربي وانسحاب فرنسا من مالي -حيث مرتزقة فاغنر الروسية أيضاً- ومن منطقة الساحل الإفريقي. وللمفارقة يتم هذا بالتزامن مع جولة إفريقية جديدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تقوده هذه المرة إلى الكونغو والسنغال وغينيا بيساو، علماً أن في التعددية الأممية الجديدة مكاناً لتركيا، وقوى أخرى ناهضة مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً