تابعنا
كيف سيكون شكل العالم بعد جائحة كورونا المستجد؟ هل من تغيير سيصيب بنياته واستراتيجياته القديمة؟ وهل سيعاد تشكيل تقاطباته وصراعاته أو تضامناته، وفق منطق جديد ومختلف عن الـ"ما قبل"؟

وهل سيفيد العالم، وهذا هو الأهم، من درس الجائحة؟ أم أنه سيمعن في صناعة الحروب وتدمير الطبيعة وقتل الإنسان وتبخيس القيم؟ وقبلاً وبعداً، هل سيتحقق العبور الآمن نحو عالم ما بعد كورونا؟

طبعا نحن محكومون بالأمل، كما صاح درويش يوماً، ولا مناص من اعتناق الأمل والحلم بإيجاد لقاح يزيح عن الإنسانية كابوساً من الرعب، أخرج من أعماق البشر، وفي هذا الظرف بالذات، أجمل وأحقر ما فيهم، في الآن ذاته، فلم يكتف الفيروس بإظهار قيم التضامن والتطوع والانتصار للحياة، بل إنه كشف الأنانيات المتطرفة جشعاً وخبثاً وانهياراً.

علينا أن نعود بعيداً نحو الوراء، لنقرأ في حوليات الجوائح والأوبئة والطواعين، التي عرفها العالم، كيف كانت تؤدي إلى تغيرات هيكلية، تعصف بالسابق واللاحق، وكيف أنها تحطم بنيات وتعيد ترتيب وضعيات أخرى.

 فالوباء لا يقف عند حدود ثنائيات الصحة والمرض، والحياة والموت، والوجود والعدم، وإنما يتسرب بتداعياته إلى الثقافة والسياسة والاقتصاد والدين وباقي أنماط الاجتماع الإنساني، بل إنه يقوض سلطاً ويؤسس أخرى، ويمحو دولاً وعصوراً وينشئ أخرى.

ففي الوقت الذي ستنكشف فيه الغمة التي أنتجها هذا الوباء المُعَوْلَمِ والمُعَوْلِمِ، ستكون الإنسانية أمام خيارين على الأقل، إما الإفادة من الدروس والعبر، والدخول في "تعاقد عالمي" جديد، قوامه الحوار والقبول والتعاون، أو الاستمرار على درب التطاحن والبلطجة الدولية، في اتجاه شفير الهاوية.

لن يكون أمام العالم سوى بناء جسور للسلام والاحترام المتبادل بين الثقافات، أو ترصيد المزيد من الخيبات والهزائم التي ستجعل الكل، نهايةً، يركع للخراب.

وبالرغم من التبرم دوماً من خطابات النهايات، فإن ما عشناه ونعيشه من رعب وترعيب، وما نختبره من ألم ومعاناة بصدد هذه الجائحة، لَيَدْعُو إلى الاستنجاد بأطروحة نهاية التاريخ لِفُوكوياما، والتي تفصلنا سنوات عديدة عن شروط إنتاجها.

فالوقائع والأشياء من حولنا، تَشِي بنهاية سجل وبداية آخر، وإن على المستوى الفردي لا الجمعي، أو على المستوى الرمزي لا المادي، فثمة تصورات تتشكل، وثمة قيم تنبني، وتعيد تشييد الفهم وتدوير المخيال.

لنتأمل العلاقة بالسفر والمكان والزمان والآخر والطعام والدواء والمرض، لنتأمل المسافة الاجتماعية والرابط الاجتماعي والقرب والبعد، لنتأمل الأنا والآخر والوطن والعالم، لنتأمل اليوتوبيات الجميلة والضروريات والكماليات، لنتأمل كل هذه "التيمات" كيف تتحول مفهوماً ودلالةً واستعمالاً؟ فهل ما زالت تعني ما كانت تعنيه قبلا؟ أم أن سلالم المَفْهَمَةِ والمعنى والتوظيف، تعرضت لإعادة تنضيد وترتيب؟

ما بعد كورونا، قد يكون نهايةً لتاريخٍ ما، وبدايةً لعهدٍ آخر، مختلف عنه في النوع والدرجة، علما بأن هذا التقسيم بين الما قبل والما بعد، لا يروم، وبأي حال من الأحوال، بلوغ مطمح التحقيب، لأجل إنتاج المعنى بمتوالية الفائت والقادم، بل يسعى، بتواضع كبير، إلى إخضاع وقائع راهنة، متناقضة ومستفزة، لمنطق استشرافي، أملا في الفهم والتفسير والتأويل.

تتأسس الفرضية الأولى على اعتبار أن عالم ما بعد كورونا سيعيد بناء نفسه من جديد، وسيسعى جاهدا إلى تضميد جراحاته والإفادة من أخطائه بحق الطبيعة والإنسان، وهي فرضية تقود إلى تراجع فرص التناحر والصراع بين الدول، فالجوائح، وكما علمنا التاريخ، تكون مدمرة وبانية في نفس الوقت، إنها تدمر الخيرات والأرواح، لكنها تعيد الأنساق إلى الصفر، ما يفترض العودة إلى الذات والتحرر من أوهام التضخم والتفوق الهوياتي، وفي ذلك كله إعادة بناء لمنظومات قيمية جديدة.

في سياق هذه الفرضية، ستعي الدول أن العلم هو مفتاح الفرج، وأن الاستثمار في الصحة والتعليم والتقنية هو السبيل لتأمين البقاء، وأن الميديوقراطية والاستبداد السياسي والهويات القاتلة والتيارات الإيديو دينية، لن تفيد المجتمعات عندما تشتد الأزمات، وأن ما يمكث في الأرض وينفع الناس، هي البيئات الحاضنة للنجاح التي تستثمر في البشر لا الحجر.

وستعي جيدا أن سياسات التفقير والتجهيل، التي تدمنها "رأسمالية الكوارث" مدعومة بالأنظمة الشمولية، كما في الحالة العربية، لا تنتج خلال الأوبئة والجوائح، إلا طابورا خامساً، يقودنا إلى الهزيمة المدوية قبل أن يشن علينا العدو المرئي أو اللا مرئي أولى هجوماته العكسرية أو البيولوجية.

أما الفرضية الثانية، وهي الأقرب إلى التحقق، وللأسف الشديد، فتنبني على التغير ضمن نسق الاستمرارية، بمعنى أن البنيات والممارسات الأشد رسوخا في المشهد العالمي، ستواصل "دورة حياتها"، وإن بمسميات ولبوس جديدة، فالجوهر ثابت، فقط هو الشكل الذي يتعرض للتغيير. بحيث لن تنتهي الدول الكبرى من "بلطجتها الدولية"، ولن تنتهي "الاستبداديات" من التغول والتسلط ومعاداة الديمقراطية، ولن يفيد "أسياد العالم" من تجار الحروب والأمراض والسياسات، من دروس كورونا القوية والعميقة.

على درب هذه الفرضية ستواصل الدول الأكثر تصنيعا في العالم، تدميرها لكوكب الأرض، بإنتاج النفايات السامة واستغلال الدول الفقيرة، عن طريق "استئجار" مدافن المواد الملوثة، مقابل خلق للجنان الضريبية أو تقديم للإعانات التي تؤبد الفقر ولا تلغيه.

وفي ذات السياق، سيعمل "أسياد وتجار الشر" على خلق المزيد من بؤر التوتر والحروب، للرفع من مبيعات السلاح، مع توفير "منتجات" بيولوجية للإبادة البشرية.

هنا في إطار هذا السيناريو الكارثي، لن يبدو أن العالم قد استوعب صفعة كورونا بشيء من الاقتدار والتفهم، وأنه مستمر في صناعة "نهاية التاريخ" بالمعنى الأنطولوجي للعبارة، وأن الفيروسات القادمة، ستكون أكثر قتلا وتدميرا، لتعود البشرية مكرهة إلى "أفول" الحضارة وبداية تاريخ "حرب الجميع ضد الجميع".

وسواء تحققت الفرضية الأولى أو الثانية، أو أيدت المدخلات والمخرجات فرضيات أخرى، غير مستبعدة، فإن "مخيالا" مغايرا قد تشكل لدى الأفراد والجماعات، بعيدا عن استراتيجيات الفاعلين المركزيين في النسق العولمي، سواء بإيعاز منهم، أو بطريقة عفوية.

فالفرد الذي عاين الموت يحصد العشرات من القريبين والبعيدين، ويُدخل الجميع في "سردية رعب معمم"، لا بد وأن يُعيد تشكيل المخيال وتوضيب الفُهُوم، ولا بد وأن يعود إلى ذاته أولاً، ليتساءل عن الضروري والثانوي في هذه الحياة، وعن الأجدى بالانهمام أو اللامبالاة.

إن سياق ما بعد كورونا سيضع الإنسانية أمام اختبار جديد للتحرر من سلطة إمبراطوريات الاستهلاك و"التتفيه"، مثلما، يُفترض أن يحررها من سلطة "حراس المعبد" الذين تخلوا عنها خلال المحنة، وتأكد لها أن "صكوك غفرانهم" و"سوق خلاصهم"، فضلا عن تعويذاتهم وتمائمهم، لم تُجْدِ نفعا، في مواجهة عدو مجهري فتاك. فالجائحة عَرَّت وفضحت الكثير من الأوهام التي تخنقنا وتكبلنا، بل إنها أزالت "سحر" النيوليبرالية المتوحشة عن العالم، وكشفت عدم صدقية نبوءات "الحداثة المفرطة" و"العولمة السعيدة".

إن أهم قيمة تعرضت للاهتزاز اليوم، وعبر مسلسل الرعب الكوروني، هي الثقة، بدءا من الثقة في المؤسسات، إلى الثقة في الآخر الذي بات يشكل خطرا، ويتوجب الابتعاد عنه، إلى الثقة في منظومة الاستهلاك التي أفرغت الإنسان من معناه، وجعلت منه "رقما" مشدودا إلى سوق تجارية لا تنتهي من توظيفه واستثماره واستعباده.

وعندما تغيب الثقة من سلم القيم، تنهار العلاقات وتتفكك الروابط الاجتماعية، وتتراجع أسهم الشرعية والمشروعية، ويتوجب البحث عن "سلطة" تدبير وتسوية مفارقة، وفق "تعاقد" مغاير. المهم أنه بعد الكارثة سيكون خيار ترميم واستعادة الثقة فعلا عسيرا، بالنسبة لجميع المتحكمين في اللعبة، فهل سننجح في تركيب قطع لوحة "البوتزل" التي بعثرها فيروس كورونا؟

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي