تابعنا
في سابقة منذ الحرب الباردة، أعلن عدد من الدول الأوروبية عودة تطبيق التجنيد الإجبارية، أو توسيع نطاقها في الدول التي كانت تطبقه، وهو ما يطرح أسئلة حول أسباب هذا التوجه الأوروبي العام، في وقت تشهد فيه الجيوش الأوروبية ترهلاً كبيراً وتحديات أمنية.

مطلع شهر أبريل/نيسان الجاري، خرج وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، متحدثاً عن "إعادة هيكلة الجيش الألماني ليكون بوضع أفضل في حالة الدفاع وفي وقت الحرب"، بما في ذلك اتخاذ قرارات غير مسبوقة منذ الحرب الباردة تثير جدلاً واسعاً داخل البلاد، كإعادة تطبيق نظام الخدمة العسكرية الإجبارية.

على حين ليست ألمانيا الوحيدة من بين دول أوروبا التي اتخذت هذا الاتجاه، إذ يخطط عدد من الدول الأوروبية إلى المضي حذوها، بل حتى البلدان التي كانت تطبق الخدمة العسكرية الإجبارية، قررت توسيع الإجراء ليشمل أعداداً أكبر من الشباب المطالبين بأدائها.

وهو ما يحيل إلى توجه عام داخل الاتحاد الأوروبي، تحركه التحديات الأمنية التي تواجهها القارة مع استمرار الحرب في أوكرانيا. بالمقابل، تطرح هذه الإجراءات أسئلة حول مدى إمكانية نجاحها في إصلاح الجيوش الأوروبية.

عودة الخدمة الإجبارية في أوروبا

يرجع تعليق ألمانيا للخدمة العسكرية الإجبارية إلى عام 2011، ولكن بعد نحو 12 عاماً وحرب كبرى على مشارف أوروبا، أصبح وزير الدفاع بوريس بيستوريوس، يرى أنه كان من الخطأ إلغاء تلك الخدمة ويشدّد على ضرورة عودتها.

وفي تصريحاته شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال بيستوريوس: "كانت هناك أسباب في ذلك الوقت لتعليق الخدمة العسكرية الإجبارية. لكن بالنظر إلى الماضي، كان ذلك خطأ (...) إنني أتطلع إلى نماذج، مثل النموذج السويدي، إذ يُجند جميع الشباب والشابات، ولا ينتهي الأمر إلا بعدد قليل مختار من أداء الخدمة العسكرية الأساسية".

ومؤخراً، طرحت مفوضة الجيش في "البوندستاغ"، إيفا هوغل، مناقشة فكرة تحديد مدة هذه الخدمة الإلزامية في المؤسسات العسكرية في سنة كاملة. بينما يميل وزير الدفاع إلى تطبيق نموذج مشابه لذلك الذي في السويد، إذ يستدعي الجيش المرشحين للخدمة، ويختار من بينهم المؤهلين للتعاقد معه بشكل دائم.

وليس هذا التوجه مقتصراً فقط على ألمانيا، بل في مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، دخل قانون الخدمة العسكرية الإجبارية في لاتفيا قيد التنفيذ، هذا بعد أن علقت البلاد العمل به منذ عام 2006.

وفي تصريحات سابقة له، أرجع الرئيس اللاتفي إيجلز لفتيس، هذا القرار إلى "الوضع الجيوسياسي الجديد، الذي يتطلب توفير عدد أكبر من الأشخاص الذين يمكنهم المشاركة في الدفاع عن بلادهم إذا لزم الأمر".

وبموجب هذا القانون، يخضع مواطنو لاتفيا الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و27 سنة، والذين ولدوا بعد 1 يناير/كانون الثاني 2004، للتجنيد الإجباري، الذي تصل مدّته إلى 11 شهراً. وبعد تخرّجهم في الخدمة، يعمل هؤلاء الشباب جنوداً احتياطيين لمدة خمس سنوات، تتضمن أسبوعاً من التدريبات العسكرية كل عام.

وفي رومانيا أيضاً، مدح رئيس وزرائها نيكولاي تشيوكا، في وقت سابق من هذا العام، عودة التجنيد الإجباري للبلاد، من دون أن يقدم أي تفاصيل عما إذا جرى اتخاذ قرار إعادة تطبيق هذا النظام على نحو فعلي.

لكن، وفي العام الماضي، كانت وزارة الدفاع الرومانية قد أيدت مشروع قانون يقترح إلزام الرومانيين في سن الخدمة العسكرية، بما في ذلك الذين يعيشون في الخارج، بالاستجابة لنداء الجيش في حالة التعبئة العامة.

وفي شهر فبراير/شباط الماضي، صرح قائد الجيش الروماني الجنرال غورغيتا فلاد، أنه ينبغي على البلاد التعجيل بتبني إطار قانوني يسمح للمتطوعين المدنيين بمتابعة التدريب العسكري، وهو ما اعتبر تأكيداً على احتمال عودة الخدمة الإجبارية إلى رومانيا، بعد تعليقها في عام 2007.

وفي فرنسا، تعود المناداة بعودة الخدمة العسكرية إلى ما قبل حرب أوكرانيا. وطرح الرئيس إيمانويل ماكرون الخدمة الوطنية الشاملة عام 2019، التي تمكن الشباب من التطوع لمدة شهر وخدمة وطنهم. وتدرس الحكومة الفرنسية الآن جعل هذا إلزامياً لجميع المواطنين الفرنسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً.

وفي العام الماضي، اقترح الجنرال بيير شيل تجنيد 10 آلاف شاب سنوياً، جزءاً من خدمة تتراوح من ثلاثة إلى ستة أشهر، وهو ما قد يزيد من عدد جنود الاحتياط. بينما أظهرت استطلاعات رأي سابقة، أن 66% من الفرنسيين يدعمون فكرة عودة الخدمة العسكرية الإجبارية ويتحسّرون على إلغائها.

ومن جانبهم أيضاً، لمّح مسؤولون إيطاليون في حكومة جيورجيا ميلوني، عن تأييدهم لعودة الخدمة العسكرية الإجبارية. وفي مرات عديدة، أعرب نائب رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو سالفيني، عن دعمه لفكرة الخدمة العسكرية الإجبارية، واصفاً إياها بـ"عام من تدريس القواعد والأخلاق الحميدة والواجبات، الذي من شأنه أن يصنع مواطنين صالحين".

ولا يقتصر هذا على الدول التي علقت الخدمة العسكرية سابقاً وتنوي إعادة تطبيقها، بل حتى على تلك التي ظلت محافظة على سريان تلك الخدمة، مثل السويد وإستونيا، هي اليوم تتجه نحو توسيعها لتعبئة أكبر عدد من المجندين، وهو ما يحيلنا إلى أن القضية تتعلق بتوجه أوروبي واسع في هذا الصدد.

لماذا عاد التجنيد الإجباري؟

يجمع مراقبون، على أن العودة الواسعة للتجنيد الإجباري في أوروبا، تأتي مدفوعة بالتحديات الأمنية والاستراتيجية التي فرضتها الحرب المستمرة في أوكرانيا على دول القارة العجوز.

وهو ما سبق أن أكده عدد من المسؤولين الأوروبيين، من بينهم وزيرة دفاع لاتفيا إنارا مورنيس، التي قالت إن اعتماد بلادها لقانون الخدمة العسكرية الإجبارية هو "استجابة للتحديات الأمنية الإقليمية الجديدة".

وكشفت الحرب في أوكرانيا مدى الترهل الذي تشهده الجيوش الأوروبية، بعد عقود من اعتماد تلك البلدان على حلف الناتو، وبالتالي على الولايات المتحدة، من أجل الدفاع عنها في حال وقوع أي تهديد عسكري على أراضيها.

في حين حتى هذا الخيار يشهد اليوم تهديدات جدية، بعد احتمال عودة الجمهوري دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، عبر الانتخابات المزمع إجراؤها شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم. وسبق أن توعد ترمب، في خطاب شهر فبراير/شباط الماضي، بأنه في حال عودته إلى الرئاسة، قد "يشجع" روسيا على مهاجمة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي لا تفي بالتزاماتها المالية.

وتعاني الجيوش الأوروبية مشكلات عدة، على رأسها ضعف التركيبة البشرية والخصاص في أعداد المجندين، ففي ألمانيا، 18% من مجمل وظائف الجيش شاغرة، في حين ترفع البلاد سقف طموحها لنقل أعداد جنودها من 181 ألفاً إلى 203 آلاف جندي بحلول 2025، وهو ما يظل ممتنعاً إلى الآن.

وفي فرنسا، صاحبة أكبر جيش في أوروبا بتعداد يبلغ 205 آلاف جندي، تبقى نحو 2000 وظيفة عسكرية شاغرة.

وبشكل عام، تبقى الجيوش الأوروبية أقل بكثير من حيث التعداد، مقارنة بالجيش الأمريكي الذي يتخطى تعداده 1.3 مليون فرد عسكري، إذ إن هناك ثلاث دول أوروبية يفوق تعداد قوتها العسكرية 150 ألف جندي عامل: فرنسا وألمانيا وإيطاليا بـ170 ألف جندي.

كما تعاني الجيوش الأوروبية مشكلات أخرى، أهمها ضعف الإنفاق على العتاد والذخيرة. وبحسب أرمين بابيرغر، رئيس شركة راينميتال، أكبر شركة دفاعية في ألمانيا، فإن أوروبا "تحتاج إلى 10 سنوات من أجل أن تصبح قادرة على الدفاع عن نفسها".

TRT عربي
الأكثر تداولاً