تابعنا
طبيعة الأهداف التي استهدفها جيش الاحتلال، والإجراءات الاحترازية ضد وقوع خسائر في صفوف المدنيين، وأنواع الأسلحة المستخدمة، والأهم عدد الشهداء والجرحى الهائل الذي تجاوز حاجز 34 ألف شهيد، أكدت كارثية هذه الأساليب وأثرها المدمر في سكان قطاع غزة.

منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بات واضحاً وحشية قواعد الاشتباك المتبعة من جيش الاحتلال الإسرائيلي. ظهر ذلك في الجولة الأولى من القصف الجوي التي بدأها سلاح الجو الإسرائيلي، واستمرت لاحقاً مع بداية العمليات البرية في مخيمات ومدن قطاع غزة.

طبيعة الأهداف التي استهدفها جيش الاحتلال، والإجراءات الاحترازية ضد وقوع خسائر في صفوف المدنيين، وأنواع الأسلحة المستخدمة، والأهم عدد الشهداء والجرحى الهائل الذي تجاوز حاجز 34 ألف شهيد، أكدت كارثية هذه الأساليب وأثرها المدمر في سكان قطاع غزة.

فداحة أثر هذه الأساليب في المدنيين الفلسطينيين دفعت الولايات المتحدة، أقرب حلفاء الاحتلال الإسرائيلي، إلى انتقادها والمطالبة بتغييرها، ووضعت إسرائيل في قفص اتهام محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية.

مناطق القتل: اُقتل كل من يتحرك

بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي، في 28 أكتوبر، المرحلة الثانية من حربه على قطاع غزة، بتقدم قواته البرية تجاه محافظتي شمال مدينة غزة، وفي ظل الكثافة السكانية، وقواعد إطلاق النار المتبعة لدى الجيش الإسرائيلي فإن عدد الضحايا من المدنيين كان هو الأكثر.

حوادث عدة سلطت الضوء على قواعد إطلاق النار لدى جنود الاحتلال، من قتل الطفلة هند حمادة وعائلتها وفريق الإسعاف الذي توجه لنجدتهم، وصولاً إلى حادثة قتل الجنود الإسرائيليين المحتجزين الثلاثة في حي الشجاعية شرق مدينة غزة.

تناولت صحيفة هآرتس الإسرائيلية هذه القضية وتحدثت مع عدد من جنود وضباط جيش الاحتلال، الذين أشاروا إلى أن جيش الاحتلال خلال عملياته في غزة أنشأ ما يُعرف بـ"مناطق القتل". ووفقاً لبعض ضباط الاحتياط الذين تحدثت معهم الصحيفة "في كل منطقة قتال، يحدد الضباط مناطق القتل، التي تعني خطوطاً حمراء واضحة لا يجوز لأي شخص من غير جنود الجيش الوجود فيها، حتى لا تتعرض القوات في هذه المنطقة لإطلاق النار".

وتخضع عملية تحديد هذه المناطق لقرارات الضباط الميدانيين. ووفقاً للصحيفة، فإن "حدود هذه المناطق وإجراءات العملية في هذه المنطقة تخضع لتفسير القادة في كل المنطقة". فالأوامر الموجهة لهؤلاء الجنود تقضي إطلاق النار على كل شخص يقترب من مناطق القتل هذه، فيما يحدد ضباط هذه المنطقة معنى الاقتراب ومسافته.

ما يعني ترك قواعد الاشتباك في المناطق التي توغل فيها الجيش الإسرائيلي في يد الضباط الميدانيين دون ضوابط مهنية، وفي ظل الاكتظاظ السكاني في المحافظات التي توغل فيها جيش الاحتلال كان من الطبيعي أن تكثر حالات القتل خارج القانون. ووفقاً لأحد الضباط فإن الأوامر تقضي بأن يطلق النار على أي من الذكور البالغين حتى لو لم يكونوا مسلحين.

كما أن الخلفية الأيديولوجية والدينية للضباط والجنود تسهم في سلوكهم وتعاملهم مع الوضع الميداني، ففي حادثة قتل عمال الإغاثة السبعة يصعب فصل الخلفية الأيديولوجية لجنود وضباط لواء الناحال المتركز في المنطقة، كما سبق أن فجّر قائد الفرقة 99 جامعة كاملة دون أي أمر قيادي أعلى. وسبق أن كشفت قناة الجزيرة القطرية عن مواد مصورة لقتل قوات الاحتلال مجموعة من المدنيين الفلسطينيين، على الرغم من أن كل العلامات تُظهر بشكل واضح طبيعتهم المدنية.

الذكاء الاصطناعي: أن تقتل بلا إنسانية

لجيش الاحتلال الإسرائيلي سوابق تاريخية في اختبار أساليب قتالية جديدة يغلب عليها كسر قواعد أخلاقية قائمة، ومن ثم تطبيع هذه الأساليب وترويجها في العالم، متخذاً من المدن الفلسطينية والفلسطينيين ميدان تجارب لها. وخلال حربها الحالية على قطاع غزة استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي عدداً من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في عمليات انتخاب الأهداف البشرية والمادية.

بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي الاستخدام الفعلي لتقنيات الذكاء الاصطناعي في عمليات "التهديف" عام 2019، عندما أنشأ وحدة تضم مئات الضباط والجنود، مهمتها المساعدة في عملية التهديف، كما صرح في ذلك الوقت رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي.

وفي حرب مايو 2021، وظف جيش الاحتلال تقنيات الذكاء الاصطناعي في عملية الاستهداف الموجهة للمقاومة الفلسطينية، لكن الثورة الحقيقية في استخدام هذه التقنيات كانت في الحرب الحالية على قطاع غزة التي وظَّف فيها جيش الاحتلال أنظمة مختلفة، لعل أبرزها نظام "الحسبورة- Habsora"، المخصص لاستهداف الأهداف الحيوية، وبرنامج "لافندر- Lavender"، المخصص لاستهداف العناصر البشرية.

ففي تحقيق استقصائي نشره موقع +972 أشارت مجموعة من المصادر داخل مؤسسة جيش الاحتلال إلى استخدامه برنامج "حسبورة" في انتخاب الأهداف المادية، التي صنفت وفقاً للتحقيق إلى أربع فئات، الأولى وتعرف بـ"الأهداف التكتيكية"، وتشمل مستودعات السلاح والصواريخ والمقرات العسكرية وما إلى ذلك.

والثانية "الأهداف تحت أرضية"، أي الأنفاق، والثالثة ما سمته بـ"أهداف القوة"، التي تشمل الأبراج والمباني العامة والمكاتب الحكومية.. إلخ، والهدف من وراء ضرب هذه الأهداف توليد "ضغط مدني على حركة حماس".. والفئة الرابعة هي منازل النشطاء في الحركات الفلسطينية.

وأشار التقرير إلى أن النظام الذي يعتمد على معالجة كمية هائلة من البيانات يعمل باعتباره "مصنع اغتيالات جماعية، فالتركيز ينصب على الكمية وليس النوعية".

وفي تقرير آخر نشرته صحيفة الغارديان البريطانية إشارات إلى استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي نظام "لافندر" في تحديد العناصر والنشطاء في المقاومة الفلسطينية، وتحديداً العناصر الميدانية، وفي بداية الحرب قدّر النظام أكثر من 37 ألف فلسطيني أهدافاً محتملة.

النظام الذي ساعد ضباط الاحتلال في انتخاب الأهداف يحتمل نسبة خطأ تصل إلى 10%، وفي المراحل الأولى من الحرب اعتمد عليه الاحتلال بشكل كلي. 20 ثانية هي المدة التي نظر فيها الضباط في صلاحية نتائج هذا النظام.

بالإضافة إلى القضايا المرتبطة بالسؤال الأخلاقي والقانوني في استخدام منظومات الذكاء الاصطناعي، فإن كفاءة هذه الأنظمة ما زالت محل نظر، فنسبة الخطأ تصل إلى 10%، وهذه نسبة مرتفعة جدّاً، وفي بيئات كقطاع غزة مكتظة بالسكان فإن آثاره الكارثية سوف تتضاعف، وهذا ما جرى، فنسبة القتل في الغارات الجوية، وتحديداً في المرحلة الأولى، هي الأعلى في تاريخ حروب إسرائيل على القطاع.

الإنسان والضرر الجانبي

منذ بداية الحملة الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة، كان واضحاً أن نسبة "الأضرار الجانبية- Collateral damage" التي اعتمدتها قيادة الجيش الإسرائيلي أعلي من الجولات السابقة. و"الأضرار الجانبية" مصطلح يشير عادة إلى الضحايا من المدنيين أو "غير المتورطين" الذين يُصابون نتيجة عمليات الاستهداف التي تنفذها قوات مسلحة ما.

وأشار تقرير لمجلة الإيكونيميست إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتمد نسبة 1 مقاتل من حركة حماس مقابل 20 مدنياً باعتبارها "ضرراً جانبيّاً" ، وفي حالة القائد الكبير تصل إلى واحد مقابل 100 مدني. هذا يعني أنه يمكن للجيش الإسرائيلي أن يقتل 20 مدنياً مقابل مقاتل واحد. و100 مدني مقابل قائد من المقاومة الفلسطينية. في المقابل اعتمد الجيش الأمريكي 1 إلى 30 مدنياً حال أراد القضاء على صدام حسين خلال غزو العراق.

هذا الأمر يتفق مع سلوك إسرائيل في حربها على غزة، ففي نهاية شهر أكتوبر 2023، وتحت مبرر اغتيال إبراهيم البياري، قائد كتيبة "الخلفاء" في كتائب القسّام، قصف سلاح الجو الإسرائيلي مخيم جباليا، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 120 فلسطينياً وإصابة مئات بينهم عشرات الحالات الخطرة، بالإضافة إلى الدمار الواسع الذي لحق بالمخيم. الأمر نفسه جرى في حالة استشهاد قائد لواء الوسطى في كتائب القسام، أيمن نوفل، بعد أن قصفت قوات الاحتلال حيّاً سكنيّاً كاملاً في المخيم.

وبرزت قضية ارتفاع نسبة الضحايا المدنيين بعد اغتيال الاحتلال الشيخ صلاح شحادة عام 2002 بعد أن قتلت إسرائيل ما يقرب من 18 شخصاً، بينهم 8 أطفال، ما فتح النقاش حول قانونية هذه الإجراءات. ومنذ ذلك الوقت وقوات الاحتلال لا تتورع عن استهداف أي شخصية قيادية بغض النظر عن المدنيين المحيطين بها.

الجديد في هذه الحرب هو توسيع هذه الإجراءات بحق الشخصيات القيادية، فلم يعد الأمر يقتصر على عائلاتهم أو منازلهم، بل يشمل أحياء كاملة، بالإضافة إلى امتداده إلى عناصر المقاومة العادية، فلم تكن إسرائيل في الحروب السابقة تقتل عناصر المقاومة الفلسطينية رفقة عائلاتهم، وهذا ما تنفذه الآن، وفي نسب الخطأ المرتفعة، وكمية النار المبالغ فيها، بعد أن أشارت عدة تقارير إلى استخدام الاحتلال ذخائر غير ذكية وقديمة، تتحول عمليات الاستهداف هذه إلى مجازر حقيقية يذهب ضحيتها عشرات من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة.

TRT عربي
الأكثر تداولاً