تابعنا
على مدار قرابة 100 عام دعمت دول كبرى جلب المستوطنين اليهود إلى أرض فلسطين، والتكفير عن جرائم الهولوكست التي ارتكبها أوروبيون بحق اليهود، والمفارقة أن من يدفع حساب هذه الخطيئة الغربية هم الفلسطينيون الذين لم يكن لهم فيها "ناقة ولا جمل".

منذ شهور عدة تنشغل أطراف دولية عديدة بإيجاد صيغة سياسية لإدارة قطاع غزة عند انتهاء الحرب الجارية، ويطغى على الاعتبارات الظاهرة لهذه الجهود تأمين دولة الاحتلال، إلا أن ما يجعل غالبية هذه الطروح بعيدة عن الواقع هو افتقارها إلى القدرة على إعادة الحق الفلسطيني، بل وافتقارها إلى الأساس السياسي والقانوني الذي يمكن يجعلها واقعاً مستقراً في يوم من الأيام.

على مدار الشهور الأخيرة تداولت تصريحات مسؤولين من دول عديدة تصورات متباينة بشأن مستقبل إدارة قطاع غزة، كإعادة السلطة الفلسطينية "المنشطة" إليه، أو إقامة إدارة مدنية تابعة للاحتلال، أو إدخال قوات دولية إليه، أو إقامة حكومة خبراء تدير الضفة والقطاع.

وطرحت الإدارة الأمريكية فكرة عودة السلطة الفلسطينية إلى إدارة القطاع بعد "تنشيطها"، وهو مصطلح يحيل إلى جهود هذه الإدارة في تدريب قوات الأمن الفلسطينية في الضفة، وصياغة عقيدتها الأمنية بما يجعل عدوها الرئيسي هو المقاومة لا الاحتلال، وقد قادها الجنرال الأمريكي كيث دايتون.

إنّ خياراً كهذا لا يبدو واقعياً لأسباب، منها غياب أي أفق سياسي لدولة فلسطينية ذات سيادة، مما يترك الدور الأمني المطلوب من سلطة مثل هذه فاقداً للشرعية في نظر عموم أبناء الشعب الفلسطيني في القطاع، خصوصاً إذا كان دخولها القطاع نتيجة لحرب إسرائيلية عليه، إضافةً إلى ترسخ ثقافة وخبرة مقاومة الاحتلال في القطاع، والوجود القوي للأجنحة المسلحة للفصائل، وفي مقدمتها حركة حماس، كما لا تخفى حالة الانقسام بين مراكز القوى في حركة فتح والسلطة على خلفية التنافس على وراثة المناصب التي يشغلها الرئيس عباس حالياً، وهي رئاسة السلطة، ورئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، ورئاسة حركة فتح.

ومعلوم أن نفوذ السلطة في قطاع غزة تضاءل بشكل كبير خلال العقد الماضي بفعل الصراع بين عباس والقيادي السابق في حركة فتح محمد دحلان، إضافةً إلى تخفيض السلطة إنفاقها على الموظفين المحسوبين عليها في القطاع.

أمّا تصور رئيس الوزراء الإسرائيلي بإدامة السيطرة الأمنية الإسرائيلية "ما بين البحر والنهر" فهو قائم في الأساس على تصوّر تفريغ أرض فلسطين من سكانها، من خلال القتل والتجويع، أو من خلال توكيل سلطة مدنية تابعة للاحتلال في القطاع.

لكن محاولات الحسم العسكري باءت بالفشل على مدار أكثر من خمسة أشهُر من الحرب، فلم يتمكن جيش الاحتلال الإسرائيلي من وقف العمل المقاوم في شمال القطاع وجنوبه، رغم كل ما ارتكبه من أنواع القتل والترويع، كما لم تسجل إلى الآن أي محاولة شعبية لاختراق الحدود المصرية رغم حجم المعاناة التي يعانيها أهل القطاع. علماً بأن حصول تهجير جزئي لن يحلّ مشكلة الاحتلال، بل يخلق مشكلة سياسية وأمنية لمصر والاحتلال على حدّ سواء.

وبفعل استمرار أعمال المقاومة على امتداد جغرافيا القطاع، لا يتمكن الاحتلال من إيجاد أي طرف محلي يتعاون معه في إدارة أي جزء من القطاع، وهو ما يعني فشل التصور الإسرائيلي بشأن التعامل مع القطاع في ظل بقاء أهله فيه.

أما طرح إرسال قوات أجنبية للسيطرة على القطاع فقد أعلنت حركة حماس رفضها، مؤكدة أنها ستتعامل مع أي قوات تدخل القطاع على أنها قوات احتلال، وهذا الموقف لن يكون مقتصراً على حركة حماس، بل سيتبنّاه عديد من الفصائل الفاعلة عسكرياً في القطاع، وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي. وبذلك فمن المستبعد أن تغامر أي دولة بإرسال جنودها في ظل هذا الواقع.

وبشأن مساعي تشكيل حكومة خبراء تكنوقراط غير فصائلية فهو ممكن على مستوى الإدارة المدنية، ما لم يكن من مهامها ملاحقة المقاومة والتضييق عليها، إلا أن إصرار الاحتلال على نزع سلاح المقاومة وتمسكه بحرية العمل العسكري داخل القطاع يعني استمرار الصراع مع المقاومة، فيما لن تملك أي حكومة غير فصائلية من الشرعية والقوة ما يمكنها من منع أعمال المقاومة من القطاع.

وفي المقابل إذا تحقق ما تطالب به حركة حماس من تشكيل حكومة وطنية تعبّر عن إرادة الشعب الفلسطيني، وليست تابعة للاحتلال أو لأي طرف خارجي، فهذا يعني استمرار أعمال المقاومة والإعداد لها، خصوصاً أن الاحتلال لن يرفع الحصار المفروض على القطاع في حال وجود حكومة بهذه المواصفات.

أين الخلل؟

عدم واقعية هذه المشاريع يثير تساؤلاً عن الخلل الذي يبقي المنطقة غير مستقرة، ولعل مكمن الخلل هو تصوّر غالبية هذه المشاريع إمكانية إدامة الاحتلال والتغاضي عن جرائمه، وفي الوقت ذاته إقناع الفلسطينيين بالامتناع عن القتال من أجل نَيل حريتهم وتقرير مصيرهم.

وهذا تصور غير واقعي، ولذلك فهو يديم الصراع ويصعده، فعلى مدار قرابة 100 عام دعمت دول كبرى جلب المستوطنين اليهود إلى أرض فلسطين، والتكفير عن جرائم الهولوكست التي ارتكبها أوروبيون بحق اليهود، والمفارقة أن من يدفع حساب هذه الخطيئة الغربية هم الفلسطينيون الذين لم يكن لهم فيها "ناقة ولا جمل"، وبذلك أضافت أوروبا والولايات المتحدة جريمة جديدة بحق العرب والفلسطينيين بدلاً من التكفير عن الجريمة الأولى!

وعبر هذه الأعوام الـ100 كان الانحياز لصالح المحتلين والتغاضي عن جرائمهم بحق أصحاب الأرض هما السمت العام للمواقف الدولية الفعلية، فيما بقيت الإدانات والمطالب الموجهة إلى المحتلين حبراً على ورق.

والنتيجة الطبيعية لهذه السياسة هي تصعيد الصراع وإكسابه أبعاداً عابرة للإقليم وللسياسة، وصولاً إلى أجواء صراع حضاري وديني تضع المنطقة على صفيح ساخن، فيما تؤدي مساعي القضاء على المقاومة في قطاع غزة إلى انتشارها وتوسعها لتشمل الضفة الغربية وجنوب لبنان وباب المندب.

إنَّ الرد الطبيعي لوجود الاحتلال هو مقاومته بمختلف أشكالها، وهو أمر إنساني تقرّه الأديان والقوانين الدولية، وهو ما ذكّر به المتحدث باسم الصين أمام محكمة العدل الدولية في الشهر الماضي.

والخلاصة أنَّ الاحتلال وجرائمه هما السبب في نشوء المقاومة الفلسطينية والتفاف الشعب الفلسطيني حولها منذ الثورات على الانتداب البريطاني وحتى معركة طوفان الأقصى، وبالتالي فلا يُعقل انتظار نتيجة مختلفة لاستمرار النهج الاستعماري الغربي في التعامل مع فلسطين والمنطقة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً