المال مقابل الاستقلال.. كيف أجبرت فرنسا الهايتيين على دفع ثمن حريتهم نقداً؟
بعد قرنين من الاستعمار الفرنسي لأراضيها، ثار سكان هايتي من أجل تحصيل استقلالهم عام 1804. غير أن باريس، المهزومة خلال الحرب، أبت إلا أن تفرض عليهم إتاوة أثقلت أجيالاً من سكان البلاد.
المال مقابل الاستقلال.. كيف أجبرت فرنسا الهايتيين على دفع ثمن حريتهم نقداً؟ (BIBLIOTHEQUE NATIONALE DE FRANCE)

لعبت هايتي دوراً مهما في الاقتصاد الفرنسي ما بين القرنين 17 و18 إذ كانت مرفأً مهماً لتجارة العبيد التي قادتها وقتذاك، أو ما يعرف بالتجارة الثلاثية بين أوروبا وساحل الأطلسي لإفريقيا والقارة الأمريكية. إذ مثَّلت الجزيرة وحدها 40% من عائدات التجارة الخارجية الفرنسية في ذلك الوقت.

ظلَّ هذا الوضع قائماً إلى حدود عام 1791، حين ثار الهايتيون، وغالبيتهم من العبيد الذين كانوا يعملون في مزارع القهوة بالجزيرة، مطالبين بالتحرر من نير العبودية والاستعمار. ومستغلين في ذلك الوضع الداخلي المأزوم لأسيادهم في فرنسا، التي كانت تتأرجح تحت تبعات ثورة 1789.

وتحصلت هايتي على استقلالها الإسمي في عام 1804، غير أن السلطات الفرنسية أبت إلا أن تقايض ذلك الشعب بالمال مقابل الحرية. هكذا فرضت عليه أداء إتاوة عانت أجيال منه في دفعها، فيما يضعها المؤرخون من بين أسباب في الفقر الذي تعيشه الجزيرة إلى اليوم.

فرنسا في هايتي.. ابتزاز وسطو بالسلاح!

بعد قضائها أكثر من قرنين تحت الاستعمار الفرنسي، وما ارتكز عليه من إبادة واستعباد للشعوب المحلية والموطَّنة عبر نشاط الرق العابر للأطلسي، والذي عرف قمّة ازدهاره وقتها، حان الوقت للشعب الهايتي ليملك مصيره ويخوض ثورته ضد الظلم، وهذا ما جرى عام 1791، حين حملت الأغلبية المسحوقة في البلاد السلاح ضد جلادها.

انتهت أطوار الثورة الهايتية الطويلة سنة 1804، بإعلان البلاد استقلالها. مع ذلك لم تنجُ من ابتزاز وتهديد المستعمر الفرنسي.

ففي 11 يوليو/تموز 1825، محاصراً الجزيرة بأسطوله الحربي ومهدداً أهلها بالإبادة الجماعية، نهب شارلز العاشر الشعب الهايتي، دافعاً سلطات البلاد إلى توقيع تعهُّد بدفع إتاوة بلغ قدرها 150 مليون فرنك تدفع على خمس سنوات، سحقت اقتصاد البلد الناشئ، دافعة إياه إلى فقر مدقع، بعدما كان غنياً بما يجنيه من زراعات التبغ والقهوة وقصب السكر.

في جريمة، كي نفهم شدة وقعها، نرجع إلى إحدى صحف تلك الحقبة، التي أقرت بأن ملك فرنسا كان يعي أن السلطات الهايتية غير قادرة على دفع تلك الأموال، وأن أي ضغط آخر يعني موتها جوعاً، ومع ذلك ما كان ليسمح بأي مرونة في تنفيذ المعاهدة، بل وامتصّ حرفياً كل مقومات الحياة من الجزيرة التي يعني اسمها باللغة المحلية "لؤلؤة الأنتيل".

تفاصيل مالية لعمليَّة النهب

كان ما نفذته فرنسا لهايتي عملية إخضاعاً كاملاً للاستعمار الاقتصادي، هذا ما يظهره تحقيق لجريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية، إذ إن الدفعة الأولى من الإتاوة التي توجب على الهايتيين دفعها سنة 1825، فاقت بستة أضعاف ناتجهم المحلي في تلك السنة، والذي لم يتعدى 5.1 مليون فرانك.

وبالتالي فرضت باريس على هايتي اللجوء مرغمة إلى الاستدانة من بنوكها، ما زاد من حجم الديون المتراكمة على عاتقهم، تطلب دفعها 70 سنة. ويعادل إجمالي ما دفعته هايتي لفرنسا أزيد من 560 مليون دولار اليوم، كان ليصبح وقتها نحو 21 مليار دولار لو استُثمر في البلاد، ويسهم في نماء الاقتصاد الهايتي بـ 115 مليار دولار.

فيما كرَّست الطريقة التي اختارت بها الحكومة الهايتية دفع هذه الإتاوة والديون ديناً اجتماعياً كبيراً، إذ اعتمدت في ذلك على إثقال كاهل مزارعي القهوة الصغار بالجبايات، فكانوا يدفعون على كل 3 دولارات ينتجونها 2.5 دولار للدين الفرنسي.

TRT عربي