الملف النووي الإيراني.. صراع المصالح وتعدُّد السيناريوهات
خرج الرئيس الأمريكي باراك أوباما من البيت الأبيض وهو يعتبر التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران في 14 يوليو/تموز 2015 أبرز ما حقّقه على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية.
إيران (Reuters)

بوصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض اعتبر تمزيق الاتفاق النووي مع إيران في مايو/أيار 2018 أبرز ما حقّقه في السياسة الخارجية الأمريكية. وكانت ذريعة ترمب هي وجود ثغرات كبيرة فيه، وعدم تطرُّق الاتفاق إلى البرنامج الصاروخي لإيران، ولا إلى سياستها في زعزعة الاستقرار في المنطقة خصوصاً في سوريا واليمن. وبناءً على ذلك اتخذ ترمب سياسة الضغوط القصوى على إيران.

لكن مع اقتراب الرئيس الديمقراطي جو بايدن من دخول البيت الأبيض في يوم 20 يناير/كانون الثاني بدأت مسألة الاتفاق النووي الإيراني تأخذ أبعاداً متعددة تتعلق بأمن الخليج العربي والحضور الإسرائيلي، وما تشهده المنطقة من توتر وتصعيد في التصريحات، وبدأت تتعزز فرضية عودة إدارة بايدن إلى مسار التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي.

بقيت إيران طوال فترة ولاية الرئيس ترمب تتخذ سياسة الصبر الاستراتيجي إزاء العقوبات المشددة التي فرضها ترمب.

فعلى الرغم من الاستفزازات الإسرائيلية باستهداف قواعد إيران في سوريا، وإقدام الولايات المتحدة على اغتيال قائد لواء القدس قاسم سليماني، واغتيال فخري زاده الأب الفعلي للبرنامج النووي الإيراني، لم تقدم إيران على أي ردّ خوفاً من الانجرار إلى فخ الحرب التي ترغب إسرائيل في جرها إليها لتدمير مفاعلها النووي. وفضّلت إيران، بدلاً من ذلك، أن ترتقب تغيُّراً سياسياً في الولايات المتحدة يفضي إلى إزاحة ترمب وإدارته المتشددة إزاءها.

وتختلف مصالح الأطراف المنخرطة في الملف النووي الإيراني، وبناء على اختلاف مصالحهم تتعدد السيناريوهات التي قد يُفضي إليها مستقبل الاتفاق النووي الإيراني.

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي

تنطلق الولايات المتحدة في تعاملها مع الملف النووي الإيراني من سياسة عامة تتعلق بمنع انتشار السلاح النووي، ومن مصالح تتعلق بأمن حلفائها في المنطقة على رأسهم إسرائيل، وفي هذا السياق يؤكد بايدن أن إدارته مستعدة للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران إذا التزمت طهران بنود الاتفاق وشروطه.

لكنه يشدّد أيضاً على أن بلاده ستبقى تتصدى لأنشطة إيران الأخرى المزعزعة للاستقرار في المنطقة على نحو أكبر". ويرى أن لمواجهة التهديد الذي تشكّله إيران للمصالح الأمريكية في المنطقة طريقة ذكية.

كما هو المتوقع وحسب القراءة لتصريحات فريق بايدن ستدفع الولايات المتحدة في ظل رئاسة باتجاه العودة إلى الاتفاق النووي وفق شروط جديدة تشمل برنامج الصواريخ البالستية، مع المحافظة على مصالح حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة خصوصاً أمن إسرائيل والخليج العربي.

وقد تكون سياسة بايدن مع إيران هي الفصل بين الملفّ النووي والملفات الأخرى التي تتعلق بالتدخلات الإيرانية في اليمن وسوريا والعراق ولبنان ومعالجة كل ملف على حدة.

الإدارة الإيرانية لملفها النووي

تستبشر إيران بوصول بايدن إلى البيت الأبيض لتعود إلى الاتفاق السابق، وتتخفف من العقوبات التي فرضها ترمب، لكن مع ذلك تحاول تحول إيران من خلال سياسة الوصول إلى حافة الهاوية بقرار رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20% ممارسة نوع من الضغط على المجتمع الدولي والدول الأطراف في الاتفاق للإسراع في العودة إلى الاتفاق النووي، ورفع العقوبات، ورفض أي اتفاق جديد أو معدَّل لتحسين شروط التفاوض.

إن ما تريده إيران هو العودة إلى الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه مع دول 5+1 دون إضافة دول خليجية إلى أطراف التفاوض، وذلك تزامناً رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة بشكل فوري، التي أضرّت بالاقتصاد الإيراني وأضعفت أنشطتها في الإقليم وأضعفت دعمها للمليشيات التابعة لإيران في المنطقة، لكن إيران متخوفة من الوقوع في جدلية تكرار تمزيق الاتفاق بحال حصل أي تغيُّر سياسي في الولايات المتحدة كما حصل فترة ولاية ترمب، لذلك تريد تثبيت الاتفاق في الأمم المتحدة كاتفاقية دولية لا يمكن النكوص عنها مجدَّداً.

المخاوف الإسرائيلية والخليجية

كانت إسرائيل المحرّض الأكبر لإدارة ترمب على تمزيق الاتفاق النووي، إذ ترغب إسرائيل أن تتفرد بامتلاك السلاح النووي في المنطقة، وتتخوف من مفاجأة إيرانية مقلقة، إذ يشير الكاتب أرييل إيلان روث المدير المساعد للدراسات الأمنية القومية بجامعة جونز هوبكنز في مقال بمجلة فورين أفيرز إلى أن إسرائيل عرفت أكثر من غيرها أن أفضل حيلة لتطوير سلاح نووي هي إبعاد المفتشين عن البلاد، وتأجيل عودتهم أطول فترة ممكنة تمنحهم الفرصة لصنع موادّ انشطارية، وهو ما فعلته إسرائيل في ستينيات القرن الماضي حينما ضللت المفتشين الأمريكيين وحاولت عن قصد تأخير زياراتهم من أجل إتمام بناء مفاعل ديمونا وإعادة معالجة الوقود النووي لصنع كميات كافية من البلوتونيوم لصناعة قنبلة نووية.

وكوريا الشمالية لجأت إلى ذات الأسلوب، وهو ما تقول إسرائيل إن إيران تكرّره اليوم، ولكن هذه المرة عن طريق يورانيوم عالي التخصيب بدلاً من البلوتونيوم.

وفي سبيل ذلك تحاول إسرائيل الضغط عن طريق الإدارة الأمريكية والتحالف مع بعض الدول الخليجية وتشديد الضربات على المواقع الإيرانية في سوريا لكي تمنع إيران من تحويل البرنامج النووي من برنامج سلمي إلى برنامج عسكري وهي نفس المخاوف التي تحملها دول الخليج إضافة لسياسة إيران التوسعية في المنطقة عبر وكلائها في اليمن ولبنان وسوريا.

أمام مصالح هذه الأطراف المتعارضة، والمتغيرات السياسية العاصفة في المنطقة، تبدو أمامنا ثلاثة سيناريوهات محتملة في ما يتعلق بمستقبل البرنامج النووي الإيراني.

أولها العودة إلى الاتفاق القديم

إذ ترغب إيران في العودة إلى الاتفاق القديم دون أي تعديل، وترفض أي حديث عن اتفاق جديد أو معدَّل، وقد انتقدت إيران بشدة تصريحات المدير العامّ للوكالة الدولية للطاقة الذريةرافائيل غروسيعن ضرورة إبرام اتفاق جديد مع طهران لإحياء الصفقة النووية المبرمة عام 2015.

في المقابل أعلن سفير إيران لدى الوكالة الدولية للطاقة الذريةكاظم غريب آباديرفض بلاده مقترح الوكالة بالتوصل إلى اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي بعد وصول جو بايدن إلى الرئاسة في الولايات المتحدة.

السيناريو الثاني.. التوصل إلى اتفاق معدَّل

وهو ما يدفع إليه الأوربيون، إذ يرى المتحدث باسم السياسة الخارجية الألمانية عن "الحزب الديمقراطي الحر" بيجان دجير سراي، أن "التمسك بالاتفاق لا يمثّل نموذجاً مستقبلياً".

وأضاف جير سراي إن الأوروبيين بحاجة ماسَّة إلى استراتيجية جديدة للتعامل مع إيران. وأكد جير سراي، وهو سياسي ليبرالي من جذور إيرانية، أنه "لا أحد يستطيع الانضمام إلى الاتفاقية التي أبرمناها في عام 2016. في غضون ذلك طرأ الكثير من التغيير على المشهد السياسي، بما في ذلك في المنطقة". وفي رأيه فإن "الاتفاق النووي مع إيران لا معنى له، إلا إذا تم أخذ جوانب أخرى في الاعتبار، وعلى رأسها برنامج الصواريخ الإيراني ودور إيران في المنطقة".

السيناريو الثالث.. إبرام اتفاق جديد

قد تكون أمام بايدن فرصة للتوصل إلى اتفاق جديد مع إيران، يتلافى الثغرات الجوهرية التي تزعمها بعض الأطراف، مستفيداً من الأوضاع الصعبة التي تعانيها طهران بسبب العقوبات القاسية التي فرضتها عليها إدارة ترمب، لكن هذا لن يكون سهلاً، بسبب الضعف الشديد الذي اكتنف أنصار الاتفاق في إيران من التيار الإصلاحي، وبسبب انسحاب إدارة ترمب من الاتفاق النووي، هذا مع توقع فوز المحافظين في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في يونيو/حزيران 2021، وهو ما سوف يزيد صعوبة التوصل إلى اتفاق جديد.




TRT عربي