على بعد أقَلَّ من عشرة شهور تفصلنا على انتهاء ولايته، اختار الرئيس إيمانويل ماكرون أن يفاجئ الفرنسيين بزيادات جديدة في فاتورة الغاز، مهملًا أن الشعب الفرنسي لم يخرج بعدُ من ثقل الأزمة الصحيَّة التي أدخلته دوامة الفقر وفقدان فرص العمل، فضلاً عن احتقان اجتماعي ينتظر لحظة انفجاره. ومتناسياً أنها تشبه الزيادات التي ظهرت على إثرها حركة السترات الصفراء في عام 2018، ولم تتراجع إلا بعد أن دفعتها جائحة كورونا إلى التزام البيوت. فهل يغامرُ ماكرون مرة أخرى بعرشه؟
زيادات في تسعيرة الغاز
زيادة بلغت الـ10% على سعر الغاز الحالي، تلك التي أعلنت "هيئة الطاقة" الفرنسية عن تطبيقها بداية من الغد، الأول من يوليو/تموز الجاري. فيما قطاع الكهرباء هو المتأثر الأكبر من الزيادة، مما سيفجر لا محالة أرقام فاتورة الطاقية لدى الفرنسيين.
"هذه الزيادة راجعة بالأساس إلى ارتفاع أسعار الغاز في السوق الدوليَّة نظراً لعملية إعادة إقلاع الاقتصاد العالمي" تعلِّل الهيئة المذكورة، محدِّدة أسباب أخرى مساهمة كذلك في الزيادة، مثل: ارتفاع الطلب على الغاز أمام انخفاض مخزونه، وأشغال صيانة خطوطه النرويجيَّة في بحر الشمال، وازدياد استهلاكه في إنتاج الكهرباء بعد التنازل عن الطاقة الذريَّة. كذلك سياسة الانتقال الطاقي التي تنتهجها أوروبا، وفرنسا على وجه الخصوص، بزيادة الضرائب على انبعاثات الكربون الملوِّثة، "شجّعت منتجي الكهرباء إلى التحول نحو الغاز الطبيعي لقلة الضرائب المفروضة عليه" يوضح رافاييل بوروماند، أستاذ الاقتصاد الفرنسي والمتخصص في المجال الطاقي، لموقع Franceinfo.
فيما بالنسبة للحكومة الفرنسيَّة، وعلى لسان وزارتها للانتقال الطاقي، أكدت على "أن كلَّ المؤشرات داخل السوق العالمية كانت تدل على حدوث ارتفاع في الأسعار، ما يجعل من الصعب توزيع هذه الزيادات على مستوى فاتورة المواطن" من أجل ضمان عدم تغيرها.
هل سيتكرَّر سيناريو السترات الصفراء؟
ما أشبه إعلان هذه الزيادات في سعر الغاز بما حدث سنة 2018، حيث أعلنت الحكومة الفرنسية فجأة رفع ضريبة القيمة المضافة على المحروقات بما يعادل 14%. الأمر الذي أثار حفيظة الشعب الفرنسي، فأطلقوا شارة حركة احتجاجيّة تحت شعار "السترة الصفراء"، منتقدين حكومة إدوارد فيليب آنذاك، ومتهمين إياها بمحاولة إلقاء المسؤوليّة على المواطنين لدفعهم الجزء الأكبر من تكلفة ضريبة الكربون وباقي المخاطر البيئيّة.
خطر تكرار السيناريو نفسه ليس بعيداً، حتى بالنسبة للهيئة الحكومية التي أعلنت عن هذه الزيادة الأخيرة، والتي حذّرت في بيانها من "الفواتير القادمة قد تتسبب في اندلاع حركات احتجاجية ضخمة". وهذا ما بدأ الفرنسيون تداوله حتى قبل تطبيق الزيادات.
على سبيل المثال، هذه التغريدة التي قال فيها صاحبها: "الخبز الأبيض (منخفض الجودة) هو في بعض المرات مهرب العوائل من أجل تحمُّل الزيادات في تسعيرة الغاز". وفي تغريدة أخرى، حذَّر صاحبها بأنه: "في 1788، أشعلت الزيادات في أسعار الدقيق النار في برميل البارود، والسنة التي بعدها.. وفي 2021، أسعار الغاز ارتفعت، وعداً ستزيد الخصخصة الأسعار انفجاراً، وبعدها.." في تلميح إلى انفجار اجتماعي يشبه الثورة الفرنسية سنة 1789.
وليس الأفراد وحدهم الذين شرعوا في تداول هذا الخطاب الممتعض، بل تبنّته أحزاب فرنسية هي الأخرى وحذَّرت من مغبَّة ما قد يقع ترتباً على هذه الزيادة. منها كان الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي نشر على موقعه بياناً طالب فيه بـ"تخفيض ضريبة القيمة المضافة على فواتير الغاز والكهرباء المخصصة للاستهلاك الشخصي"، محذراً في ختامه بأنه "بعد سنة ونصف من الجائحة الوبائيَّة، وما تبعها من فقدان فرص العمل وتفشي الأوضاع الاجتماعية السيئة، قرار تخفيض الضريبة على الفواتير سيكون الأصح بأن تتخذه الحكومة".
في هذا السياق كذلك، حذَّر النائب الأوروبي، الفرنسي باسكال كوفين، من أن "أي محاولة أوروبيَّة لتوسيع سوق الانبعاثات، ستكون خطوة انتحارية قد تعيد اندلاع أحداث مشابهة لحركة السترات الصفراء في فرنسا سنة 2018". هذا كان رداً على قرار رئيسة المفوضيَّة، أورسولا فون دير لين، بتوسيع تلك السوق لتشمل مجالات النقل والبناء. فيما تعد سوق تجارة الانبعاثات أكثر الأساليب فعالية للحد من الكربون، فيما تقع تكلفتها على عاتق أبناء الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسِّطة، الذين يدفعونها من جيوبهم سواء على شكل ضرائب أو زيادات في الفواتير.