شرقي الفرات: التركيبة التاريخية وسياسة التغيير الديموغرافي الانفصالية
لم تقتصر جناية منظمة PKK الإرهابية على العبث بالتركيبة الديمغرافية لمنطقة شمالي شرقي سوريا، بل شملت أيضا العبث بالحقائق التاريخية.
أطلق الجيش التركي بالتعاون مع الجيش الوطني السوري عملية نبع السلام في منطقة شرق نهر الفرات شمالي سوريا (AA)

"على العرب الذين استوطنوا أرضنا الرحيل"، بهذه الجملة التي قالها في السنوات الأولى للثورة السورية، لخص صالح مسلم الزعيم السابق لحزب PYD الفرع السوري لمنظمة PKK الإرهابية، الكثير مما يمكن أن يروى بشأن منطقة شمالي شرقي سوريا، التي استولى عليها حزبه بالقوة بعد أن سلمها له نظام بشار الأسد، وتحديداً منطقة الجزيرة السورية أو شرقي الفرات.

لم تقتصر جناية هذا التنظيم ومليشياته المسلحة بحق المنطقة وأهلها على العبث بالتركيبة الديموغرافية، بل شملت أيضاً العبث بالحقائق التاريخية وتزييفها بغرض استكمال مستلزمات قيام المشروع الانفصالي، فهل فعلاً "استوطن العرب" في أرض الكرد السوريين؟ وكيف حاول التنظيم الإرهابي الإخلال بالتركيبة الثقافية والإثنية للمنطقة، وتحقيق عكس ادعاءاته من خلال تهجير بعض أبناء المكونات العرقية غير الكردية، مثل العرب والتركمان، وإحلال أكراد قادمين من قنديل وخنادق الإرهاب محلهم؟

الجزيرة تاريخياً

تعاقبت بعض أقدم الحضارات على هذه المنطقة، فقد شهدت ولادة أو امتداد حضارات سومر وأكاد وبابل وآشور وكلدان وآرام. وقد سكنت القبائل العربية جزيرة الفرات منذ العصور الأولى لظهور العرب، أي قبل الإسلام بقرون، فكان يطلق عليها ديار ربيعة وديار مضر، واعتنق بعض القبائل الديانة المسيحية.

تحولت الجزيرة الفراتية بعد تخريبها على يد المغول إلى قبلة للبدو الرحّل من كل الاتجاهات، وباتت مقصداً حتى للقبائل البعيدة مثل شمر وعنزة القادمتين من نجد ابتداءً من عام 1640 للميلاد، حيث استوطنتا المنطقة جزئياً كما استوطنتها بعض القبائل الكردية الرحل منذ منتصف القرن التاسع عشر، وشهدت أكبر تدفق للمستوطنين الأكراد خلال عشرينيات القرن الماضي قبل استقرار الحدود بين سوريا وتركيا.

ومع بداية القرن العشرين كانت أهم العشائر العربية شبه المستقرة في الجزيرة هي طيئ وشمر والجبور والبقارة وزبيد والشرابيين والعدوان، والعشائر الكردية كالدقورية والشيتية وبينار علي والميران، إضافة إلى التركمان والشركس. وكانت المنطقة وقتها شبه خالية من العمران، ولم يكن في الجزيرة سوى بضعة قرى صغيرة مثل رأس العين ومركدة.

ومنذ ذلك الحين، وتحديداً خلال عشرينيات القرن الماضي وتحت الاحتلال الفرنسي، بدأت تظهر مدن جديدة مثل الحسكة والقامشلي، التي سكنتها قبائل طيئ ابتداءً، ثم تبعهم مهاجرون من الأرمن والسريان والأكراد.

الجزيرة ديموغرافياً

في دراسة ميدانية حديثة أنجزت عام 2012 واستندت إلى إحصاءات رسمية سابقة، تبين أن محافظة الحسكة التي تشغل حيزاً كبيراً من المنطقة، هي محافظة ذات غالبية عربية بنسبة تصل إلى 70%، فيما تصل نسبة المكون الكردي إلى 28% فقط، والباقي يتألف من الآشور والتركمان والأرمن. وإذا كانت هذه المحافظة تتألف إدارياً من 5 مناطق تتبع لها 11 ناحية يرتبط بها 1717 قرية، فإنه لا توجد منطقة واحدة يشكل فيها الأكراد أو أي مكون قومي آخر غير العرب أغلبية. أما على مستوى النواحي وهي الوحدات الإدارية الأصغر، فإن 3 منها فقط تسودها مع قراها غالبية كردية، هي عامودا والدرباسية والمالكية.

وعلى مستوى العدد الكلي للقرى التابعة لمحافظة الحسكة وهو 1717، فإن 1161 منها عربية، و453 كردية، و50 آشورية-سريانية، و53 منها مختلطة.

أما في الجزء التابع لمحافظة الرقة من الجزيرة الفراتية، والذي تشكله بالأساس منطقة تل أبيض وتتبع لها ناحيا سلوك وعين عيسى، فإنه على الرغم من أنها تضم مكونات عرقية مختلفة ومتنوعة، فإنها تعد بجميع مناطقها ونواحيها الإدارية ذات غالبية عربية، باستثناء بعض القرى الكردية غربي تل أبيض، و5 قرى تركمانية.

وبالإضافة إلى الغالبية العربية في تل أبيض، فإن المدينة تضم أعداداً قليلة من الأرمن والتركمان ونحو 20 عائلة من الأكراد.

وفي الجزء الثالث من الجزيرة الفراتية، تأتي منطقة عين العرب، التي تضم إدارياً 3 نواحٍ و400 قرية صغيرة، ويشكل الأكراد غالبية سكان مركز المنطقة، فيما لا تتعدى نسبتهم 47 % في مجمل القرى التابعة للمنطقة، التي تضم أيضاً مكونات أخرى مثل الأرمن والتركمان.

التغيير الديمغرافي بيد من حديد

بدأت حملة تنظيم YPG ممثلاً بالإدارة الذاتية التي يدير من خلالها المنطقة منذ عام 2013، بانتهاج سياسة بطيئة وثابتة للتأثير على التركيبة السكانية لا سيما في المناطق التي تمكن من فرض سيطرته عليها لاحقاً خلال المعارك مع تنظيم داعش، بدعم من التحالف الدولي، وذلك بشهادة تقارير لمنظمات وهيئات محلية ودولية مستقلة.

الباحث السياسي صدام الجاسر أكد لـTRT عربي أن ما يسمى بـ"الإدارة الذاتية" هي "في الحقيقة لا تمثل الأكراد، فهي تعتبر مجرد قفاز خارجي لقيادات قنديل القادمة من خارج المنطقة، والتي تسببت في إحداث خلل في التعايش السلمي في المنطقة، وعملت على بث التفرقة بين جميع مكوناته".

وشملت سياسة التنظيم الهادفة لإحداث تغيير ديمغرافي طرد آلاف المدنيين من غير الأكراد وهدم منازلهم في العديد من القرى، وذلك حسب تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 2015 وثقت فيه 12 حالة، في حين تحدث تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان عن 3 مجازر تحمل صبغة تطهير عرقي في قرى الأغيبش والحاجية وتل خليل وبلدة تل براك.

وأدت هذه المجازر إلى فرار عشرات الآلاف من سكان تلك المناطق، أغلبيتهم من العرب وبعضهم من التركمان، ولا تزال عشرات القرى حتى الآن خالية من سكانها، ورافقها عمليات اعتقال تعسفي وتعذيب، وعمليات قتل خارج نطاق القانون، والتشريد القسري، ونهب للممتلكات ومصادرة للأراضي الزراعية، وقصف عشوائي عديم التمييز، وهي ترقى إلى جرائم حرب، وفقاً للشبكة السورية.

وشدد "الجاسر" على أنه منذ بداية سيطرته، عمل تنظيم PYD على إحداث تغيير ديمغرافي "من خلال تهجير العرب من قراهم، وخصوصاً القرى الحدودية، وفي منطقة سلوك ورأس العين وعين العرب، وغير أسماء المناطق العربية إلى أسماء كردية، وأيضاً رفض السماح للعرب بالعودة إلى مناطقهم إلا بوجود كفيل"، وهذا الأمر أدى وفقاً له، إلى خروج أعداد كبيرة من العرب من هذه المناطق، واتجهوا إلى تركيا، أو مناطق درع الفرات، أو غصن الزيتون".

الصحفي والكاتب عمار مصارع، الذي ينحدر من محافظة الرقة، يقول لـTRT عربي إن "أول ما قام به التنظيم الانفصالي بعدما احتل المنطقة بمساعدة الأمريكيين هو التغيير الديموغرافي"، مضيفاً "حاولوا أن يصوروا المنطقة على أنها إسلامية متزمتة لكي يصادق العالم على سياساتهم وفرض ثقافتهم بالقوة".

وذكّر "مصارع" بأن التنظيم الإرهابي "الذي لا تقف أطماعه عند حد، بدأ مشروعه بالادعاء بأن الكيان الذي يسعى لتأسيسه يصل إلى البحر المتوسط". وأوضح أنه "قام بطرد التركمان من قرى ناحية سلوك، وقاموا بحرق الدوائر الرسمية التي تضم مستندات الملكية في تل أبيض ورأس العين والقامشلي".

وفي مسعى منه للتنبيه على حجم التغيير الديمغرافي الذي حدث في المنطقة، قال الصحفي السوري: "في مدينة تل أبيض، حيث كانت تسكن 20 عائلة كردية فقط، أصبح أبناؤها الأصليون بحاجة إلى مترجم من الكردية إلى العربية عندما يريدون إنجاز أي معاملة رسمية في الدوائر الإدارية"، في إشارة إلى اقتصار التوظيف في الدوائر "الحكومية" على الأكراد.

وأوضح أن "هذا ينسحب على جميع المدن والقرى التي يسيطر عليها YPG، فقد جلبوا أكراداً من دول أخرى ومن قنديل".

ورأى الباحث السياسي صدام الجاسر، أن "سياسات التهجير والتضييق هي أسلوب من أجل تفريغ المنطقة من سكانها الأصليين للوصول إلى محاولة تشكيل كيان منفصل عن سوريا"، لكنه اعتبر أن "التوزيع الإثني والسكاني في المنطقة يعتبر عائقاً أمام هذا المشروع، لذلك تسعى الإدارة الذاتية إلى ضرب هذا التوزيع، وتحاول باستمرار أن تهجّر أكبر عدد ممكن من الأهالي".

من جهته، قال الباحث والمحلل السياسي باسل الحاج جاسم، في حديث مع TRT عربي إنه "ما من أقلية في المنطقة تمتلك أي مقومات جغرافية ولا ديمغرافية لفدرالية أو لحكم ذاتي أو كيان انفصالي".

وأوضح أنه "في حال حصول أي أقلية على شيء كهذا فالسؤال سيكون: ماذا عن الآخرين وعن الأكثرية العربية المطلقة، هل سيُسمح لهم بإقامة إدارة ذاتية أيضاً ضمن الإدارة الذاتية الأولى، أو فيدرالية؟!".

ورأى الحاج جاسم أنه يمكن للجميع الحصول على حقوق ثقافية في مناطق تواجدهم، في إطار المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات في الجمهورية العربية السورية.

الاضطهاد للجميع

ولم تقتصر عمليات التضييق على العرب، بل شملت المكونات العرقية والثقافية الأخرى، وتجسد ذلك لا سيما في القطاع التعليمي، الذي شهد قبل عامين إقرار مناهج جديدة حاولت إدارة التنظيم الإرهابي فرضه على جميع المدارس الواقعة تحت سيطرتها.

وصدر لاحقاً قرار من "هيئة التعليم" التابعة لما يسمى "الإدارة الذاتية"، ينهي عقود مجموعة من المعلمين العرب، بذريعة عدم تأقلمهم مع المناهج التي أعدتها، والتي تسوّق لأيديولوجية التنظيم الإرهابي وتمجيد رموزه.

وبعيداً عن التعليم، قام تنظيم YPG في منطقة الخابور بنزع سلاح مليشيا Sootoro الآشورية، ليضمن بقاء الجهة الوحيدة التي تحمل السلاح وتستخدمه في فرض رؤاها ومشروعها الانفصالي. ولذلك لم يتردد التنظيم في طرد مليشيا "الدفاع الوطني" الموالية للنظام السوري في مدينة الحسكة، على الرغم من تعايش الطرفين لسنوات.

نبع السلام

بعدما تمكن الجيش التركي بالتعاون مع الجيش الوطني السوري، من تحرير مدينتي تل أبيض ورأس العين، والعديد من القرى المحيطة بهما، أصبحت عملية "نبع السلام" أملاً لأبناء المنطقة المهجرين قسراً للعودة إليها مجدداً.

وفتحت العملية العسكرية الباب على مصراعيه أمام الأهالي المهجرين ليس للعودة إلى منازلهم فقط، بل للتطلع نحو استعادة التوازن السكاني والعراقي وتصحيح الوضع الخاطئ الذي أنتجته الإدارة الذاتية، على ما أفاد به الباحث السياسي صدام الجاسر، في حديثه مع TRT عربي.

ولفت إلى أنه في حال تحققت أهداف العملية في إنشاء المنطقة الآمنة، فإن المنطقة "ستتحول إلى واحة استقرار واستثمار، خصوصاً أنها تمتلك كل المقومات الاقتصادية، والأهم من ذلك، هو الخلاص من عامل اللا استقرار الأول، وهو وجود منظمة PYD.

وفي السياق نفسه، يقول الصحفي والكاتب السوري عمار مصارع: "تضم ولاية شانلي أورفة التركية حالياً نحو 400 ألف سوري كلهم من منطقة الجزيرة السورية، ويريدون أن يعودوا إلى أراضيهم". مضيفاً: "لا نريد أكثر من عودة أهل المنطقة إلى بيوتهم وأراضيهم".

من جهته، رأى الباحث والمحلل السياسي باسل الحاج جاسم، أن "إعادة سكان هذه المناطق المهجرين بعد تأمين وتأهيل البنية التحتية كافٍ لإعادة التوازن إلى التركيبة السكانية التي اختلت خلال سيطرة المليشيات العرقية الانفصالية على المنطقة، عندما استقوت بالأمريكيين على سكانها الأصليين".

TRT عربي