في تونس: هل الفرنكوفونية شرط لتولّي المناصب؟
استتب الأمر لإلياس الفخفاخ رئيس الحكومة التونسية الجديد ونال ثقة البرلمان ودخل القصبة مطمئناً، بعد أن تسلم السلطة من سلفه يوسف الشاهد في صورة ديمقراطية برّاقة لكنها لا تخلو من الصدأ.
رئيس الوزراء التونسي إلياس الفخفاخ يستمع إلى سلفه يوسف الشاهد خلال حفل تسليم السلطة في تونس (Reuters)

وهو أمر يحتاج إلى أن نفصل القول فيه بعض الشيء. ويكون لزاماً في هذه الحالة أن نطرح أسئلة مدارها حيرة عدد من الملاحظين والمتابعين للمشهد التونسي وللدينامية اللافتة التي يعيشها هذا البلد منذ نحو عقد من الزمن.

فمَن إلياس الفخفاخ الذي قاده "الدخان الأبيض" الذي تصاعد من قرطاج إلى أن يتبوأ أبرز موقع في السلطة التنفيذية في تونس؟ وما القدرات والإمكانات التي تجعله "الأقدر" على مجابهة الأزمة المجتمعية متعددة الأبعاد في تونس بكل تمظهراتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية؟ وهل سينجح فيما فشل الآخرون؟

في هذا الإطار لا بد من ذكر تفصيل مهم لعلّه يكون منطلقاً للإجابة عن هذه الأسئلة المركزية وهو أن إلياس الفخفاخ المحسوب على التيار الليبرالي الفرنكوفوني لا يزال حتى اللحظة حاملاً الجنسية الفرنسية، ولم يتخلَّ عنها حتى بعد دخوله القصبة ليصبح رئيس الحكومة التونسية في بلد لا يزال يجر خلفه آثار تركة المستعمر الفرنسي إلى الآن.

ولا تزال ندوب الذاكرة التونسية نازفة حتى اليوم ولم تُشفَ من آلامها جرّاء ما ارتكبته فرنسا في حق الشعب التونسي. ولا يزال تاريخ الحركة الوطنية التونسية وتحديداً مرحلة الكفاح المسلح يطغى عليه التعتيم. كما تتعالى أصوات بعض أفراد النخبة والفاعلين السياسيين مطالبين باعتذار رسمي من المستعمر القديم على ما صنعه في تونس.

ويقودنا هذا التفصيل أو بالأحرى هذه المفارقة العجيبة إلى شخصية رئيس الحكومة الجديد وإلى التقاطعات المهمة بينه وبين سلفه يوسف الشاهد الذي سلّمه مقاليد السلطة.

فقد كان حزب الشاهد "تحيا تونس" هو الذي اقترح الفخفاخ على رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي رأى فيه، وهذه مفارقة أخرى، الشخصية الأقدر لقيادة المرحلة، وفضّله على كل الكفاءات التي اقتُرحت أسماؤها من قبل أحزاب أخرى.

فمنذ أن طفا اسم الفخفاخ على السطح حتى سرت الكثير من الهمهمات التي سرعان ما تحولت إلى سجالات في الفضاء العام مدارها تساؤلات إنكارية عن الزج بهذا الاسم تحديداً في خضم التنافس السياسي، وفي سياق يتناقض مطلقاً مع الملامح العامة لهذه الشخصية.

فالرجل من "أبناء فرنسا" كما يقال في تونس. فهو من الذين درسوا وعملوا فيها وحملوا جنسيتها. وهو من التيار الفرنكوفوني الحامل للثقافة الفرنسية. كما يمضي البعض إلى تأكيد أنه من "الفرنكوفونيين" في استدعاء للعبارة الفرنسية التي مفادها الذوبان والتماهي مع المستعمر القديم.

شخصية الرجل تتناقض جذرياً مع شخصية رئيس الدولة قيس سعيّد الذي قدمه على أنه الأقدر. فقيس ابن الطبقة الوسطى الذي هام عدد من التونسيين بفصاحته وتجذره بالعربية ودفاعه عن القضية الفلسطينية، وهو خريج الجامعة التونسية دون سواها، والمدافع عن أحلام البسطاء وحامل لواء التحرر.

ولكن إذا علمنا طبيعة العلاقة المتينة بين رئيس الحكومة المتخلي يوسف الشاهد ورئيس الجمهورية قيس سعيد وتأثيره الكبير عليه، وإذا انتبهنا إلى التقاطعات الكبيرة بين الشاهد صاحب الاقتراح عبر حزبه "تحيا تونس" وخلفه الفخفاخ، والتشابه في المسارات بينهما قد يبطل هذا العجب أو قد تخفت الدهشة.

وإذا تمعنّا في الدور الفرنسي في تونس منذ الاستقلال حتى اليوم ونمط الفاعلين السياسيين الذي حرص المستعمر القديم على دعمهم بكل الطرق سراً وعلانية فإن الأمر يصبح قابلاً للفهم والتفسير أيضاً.

إذن، نرى اليوم أن الفخفاخ يخلف الشاهد في إدارة الشأن العام في تونس. وهما من أولئك الذين يطلق عليهم "الفتيان الذهبيون" الذين ينحدرون من أصول اجتماعية مرموقة، ومن الذين انفتحت لهم أحضان الغرب للدراسة والعمل، وجاؤوا إلى العمل السياسي في السياق الثوري من دون مشروعية نضالية زمن الاستبداد، ولا مراكمة تجربة سياسية.

وهؤلاء الذين يتشابهون في انتمائهم "الفرنسي" عبر الجنسية على الأقل والذين يستظلون بمظلة الحداثة والوسطية لا يحملون في الحقيقة أي مشروع حقيقي وجاد يمكن أن يغير واقع التونسيين المأزوم.

كما أنهم لا يعرفون حتى النزر القليل عن تونس الأعماق وعن أشواق مواطنيها إلى الحرية والكرامة والعدالة. وقد أظهروا جميعاً فشلاً وعدم قدرة على مجابهة المشاكل عندما تولوا مناصبهم في رئاسة الحكومة. بالنسبة إلى جمعة والشاهد وفي وزارتَي الصحة والسياحة بالنسبة إلى الفخفاخ.

لم ينل الفخفاخ ومن قبلُ الشاهد أي حظوة لدى الشعب عبر الانتخابات العامة، وعلى الرغم من اختلافهم الأيديولوجي عن الرئيس فإنهم حظوا بثقته، وهذا أمر لا يزال يحير الكثير من التونسيين. وإن التفسير المبنى على أن النفوذ الفرنسي في دعم صعود "الفتيان الذهبيين" لا شك يزيد من مستوى الحيرة مع أخذ شخصية الرئيس سعيّد المُعادي للنفوذ الفرنسي بعين الاعتبار. وهنا ووفق هذه الصورة الملتبسة فإن التفاؤل بنجاح الحكومة في معالجة مشكلات تونس والنهوض بها يبقى في حدوده الدنيا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي