أوروبا على مفترق طرق في عالم متعدد الأقطاب
تنقشع آمال الأوروبيين بصعود دورهم ضمن صدارة عالمٍ متعدد الأقطاب. عليهم الآن تحديد الوجهة وسط استقطاب متصاعد بين واشنطن وكلٍّ مِن موسكو وبكين.
علم الاتحاد الأوروبي (Others)

لا تبدو أوروبا في أفضل أحوالها اليوم، فهي تقف على مفترق طرق دون الوثوق بقدرتها على التماسك الداخلي في اختيار الوجهة المستقبلية. وإن كان عهد ترمب المتغطرس ثقيل الوطأة على أوروبا الموحدة، فإنّ القارّة تستشرف هواجس جديدة مع إدارة بايدن الذي يتحلّى بصمته المُريب.

لا تحمل التوجّهات الأوليّة التي أوحَت بها إدارة بايدن أيّ بشائر للأوروبيين الذين يساورهم القلق وتنتابهم الحيرة إزاء التموضع الأمثل لهم.

فبعد رسائل الضغط والإذلال التي سدّدتها إدارة ترمب لشركائها الأوروبيين، عادت الإدارة الجديدة إلى الأوروبيين بخطاب يحمل في ظاهره الاستمالة وفي باطنه الاستدراج إلى التخندق غير المشروط مع واشنطن في مواجهة روسيا والصين.

تتوقّع الولايات المتحدة مِن أوروبا الاصطفاف خلفها في خدمة أولوية أمريكية يقع تغليفها بروح غربية، بما يحرم أوروبا من تطوير خيارات مستقلة أو سياسة توازنات في عالم متعدد الأقطاب. يُخاطر هذا التوجّه الأمريكي بإذكاء حرب باردة جديدة تحاول أوروبا تحاشيها.

لن ينسجم الرضوخ للتبعية مع نهج متوازن تختطّه ألمانيا في إدارة علاقاتها الخارجية، بما يراعي مصالحها الاقتصادية الواسعة مع الصين ومقاربتها لأمن الطاقة كما يجسِّدها تعاونها مع روسيا في مشروع خط الغاز الشمالي "نورث ستريم".

ولا يطيب لفرنسا التنازل عن نزعتها الاستقلالية التي حرّضتها على تحدِّي إدارة ترمب بالدعوة إلى تشكيل مظلة دفاعية أوروبية ردّاً على إملاءات سيد البيت الأبيض وقتها نحو الأوروبيين بشأن زيادة الإنفاق على حلف الأطلسي.

من متغيِّرات المرحلة أنّ روسيا تجاوزت الترهّل الذي كانت عليه حتى مطلع هذا القرن، عندما كان الأمريكيون يقتربون مِن تخومها خطوة خطوة عبر ضمّ أعضاء حلف وارسو السابقين إلى منظومة الأطلسي، ثم استيعاب جمهوريات البلطيق السوفياتية السابقة في الناتو، في رسالة اعتبرتها موسكو تحدِّياً واستفزازاً.

استفاقت روسيا بعد صدمة خسارة الحرب الباردة، وتمدّدت خارج حدودها في العقد الأخير، وشرعت في استعادة بعض أواصرها نسبيّاً مع بلدان وسط أوروبا وشرقها، زيادة على القوى الشعبوية الأوروبية المقرّبة من موسكو، وها هي تستثمر بجرأة في "دبلوماسية اللقاحات" للتسلّل عبر ثغرات الوحدة الأوروبية.

ستحاول الولايات المتحدة جرّ أوروبا أو بعضها على الأقل إلى الخندق الأمريكي مِن خلال التّركيز الانتقائي على بعض الوقائع وملفات حقوق الإنسان وتصعيد خطاب "القيم الكونيّة" في مواجهة "أنظمة سلطوية".

وجاء نعت بوتين بـ"القاتل" على لسان بايدن نبضة أولى في هذا الاتجاه. ستتكفّل بعض المفاجآت بتأزيمٍ غير متوقّع، كما جرى مثلاً مع الكشف المفاجئ في نهاية مارس/ آذار 2021 عن تورّط السفارة الروسية في روما بواقعة تجسّس رفيعة المستوى. لهذا الحدث مؤشِّرات محتملة بالنسبة لاتجاه الريح في إيطاليا تحديداً التي تُعرَف بتقلّبات سياستها الخارجية.

سيجد الأوروبيون أنفسهم مضطرين إلى فرض عقوبات جزئية كلّما حملت الشاشات مشاهد قمع من شوارع روسيا أو توالى الكشف عن انتهاكات السلطات الصينية بحق الأويغور. لكنّ أوروبا تحرص على مصالحها الاقتصادية مع بكين الصاعدة بمنطق "الحزام والطريق"، علاوة على تجنّب الأوروبيين استفزاز الدبّ الروسي.

وإذ يتمسّك الأوروبيون بتوطيد تعاونهم مع واشنطن التي تقود مظلّتهم الدفاعية وتجمعهم بها أواصر استراتيجية ومصالح اقتصادية، فإنّهم يدركون فرصتهم المثلى في علاقات متوازنة وتعزيز دورهم الوسيط بين الأقطاب، لكنّ فرص الإمساك بالعصا من منتصفها تتراجع كلّما تدهور الموقف إلى استقطابٍ بين كتلتين غربيّة، تقودها واشنطن، وشرقيّة تجمع موسكو وبكين.

تنقشع آمال الأوروبيين بصعود دورهم ضمن عالم متعدد الأقطاب. فعلى القارّة الموحدة تحديد الوجهة وقد تضاءل وزنها بخسارة ركيزة أساسية مع خروج بريطانيا من الاتحاد.

ثمّ إنّ امبراطورية الوحدة تفقد السيطرة على سلوك بعض أعضائها كما يتضح حيناً في وسط أوروبا وشرقها، أو في مواقف دول أخرى من ملف لقاحات "كوفيد 19" حيناً آخر، علاوة على الأعباء الاقتصادية الباهظة التي يجرّها موسم كورونا على الأسرة الأوروبية عموماً بما يؤدي إلى تصريف التذمّر نحو مشروع الوحدة.

يُواصِل الاتحاد الأوروبي رغم ذلك كله التغنِّي بآصرةٍ تجمع جزراً متوسطية دافئة مع أقاليم اسكندنافية متجمدة، وتضمّ أمماً في البلقان مع إيرلندا في أقصى الغرب، لكنّ بريق الوحدة انطفأ في عيون مواطنيه واضمحلّت آمال صعود قطب أوروبي متماسك إلى صدارة المنافسة الدولية.

زهدت "بريطانيا العظمى" بأوروبا فغادرت القارّة ببهجة ظاهرة، فجرّب الاتحاد خبرة الانكماش والتضاؤل بعد أن اعتاد على التوسّع والنموّ عقوداً من الزمن. سدّد هذا الخروج المُهين خسائر استراتيجية ومادية ومعنوية لمشروع الوحدة، ولا مبالغة في الاستنتاج بأنّ "البريكست" كان نقطة تحوّل عكسية في هذا المشروع. لا يجترئ قادة الدول الأعضاء على التلويح بخروجهم من الاتحاد، لكنّ بعض منافسيهم في الداخل يرفعون شعارات "الاستقلال عن بروكسيل"، بينما يحرص بعض كبار المسؤولين في عواصم القارة على إظهار نبرة عناد وتصلّب نحو بيروقراطية الوحدة وهم يُدركون مفعول ذلك في تملُّق المزاج الجماهيري لناخبيهم.

يبقى توجيه الحنق الداخلي نحو الاتحاد الأوروبي خياراً مثالياً لبعض الدول الأعضاء عبر اتخاذ بروكسيل مشجباً لتعليق الأوزار عليه، في ما يخص متاعب اقتصادية أو جاهزية القطاعات الصحية للتعامل مع جائحة كورونا أو بشأن التعثُّر في تمكين المواطنين من اللقاحات. بلغ الأمر حدّ التمرّد الظاهر من خلال إبرام تفاهمات انفرادية مع روسيا مثلاً بشأن لقاح "سبوتنيك"، أو من خلال القفزة الدانمركية والنمساوية نحو بنيامين نتنياهو تحت عنوان "استلهام الخبرة الإسرائيلية" المزعومة، رغم أنّ محتلِّي فلسطين لم يبتكروا أياً من اللقاحات أو يُنتجوها، وإنما استبقوا أمم الأرض للحصول على كميات سخيّة منها ثمّ وظّفوا خبرة مجتمع الجيش والاستيطان في برنامج التلقيح السريع والواسع.

تشير هذه المعطيات إلى أنّ أوروبا التي يعوِّل عليها بايدن مختلفة عن زمن تلك التي كانت في عهد بيل كلينتون أو حتى باراك أوباما، ويمتدّ هذا الاختلاف إلى تحوّلات قد لا تكون مرئية.

فأوروبا تتدهور مبدئياً وقيمياً في مجالات غير ملحوظة أحياناً حتى في العمق الأوروبي، مثل التوجّه إلى مزيد من انتهاك خصوصيات المواطنين في تطبيقات التواصل وشرعنة الرقابة الشبكية، علاوة على تراجعات نسبية في بعض البيئات الأوروبية على صعيد حالة حقوق الإنسان وحرية التعبير والموقف من التنوّع الداخلي أو من المكوِّن المجتمعي المسلم تحديداً. جرت هذه التراجعات تحت تأثير تحوّلات منها النزعة الشعبوية وحتى تأثير "مدرسة ترمب" على ساسة أوروبا، رغم طبيعة مشروع الوحدة الأوروبية الذي تكلّل بشعارات الحقوق والحريات والديمقراطية. تحاول عواصم النهج المتصلِّب في هذه الشؤون تعميم مقارباتها الخاصة على الاتحاد الأوروبي عموماً، كما اتّضح من الاجتماعات الأوروبية التي ناقشت ملفات الخصوصية وتطبيقات التواصل والمسلمين والأئمة بدءاً من سنة 2020.

تقترن هذه التحوّلات الأوروبية الداخلية بترهّل الوحدة وقصورها في تطوير منظومة اقتصادية منيعة في مواجهة النفوذ الصيني المتعاظم في البرّ الأوروبي، علاوة على العجز المزمن في الاستقلال الدفاعي عن المظلّة الأمريكية، التي قد ينزلق بمقتضاها الأوروبيون إلى خنادق حرب باردة جديدة طوعاً أو كرهاً.


جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي