أوروبا في مرمى خصوم وحدتها
وإن بدت انتخابات البرلمان الأوروبي في عيون شعوب القارة موسماً سياسياً ثانوياً في العادة، فإنّ جولة 2019 تكتسب أهمية مضاعفة بالنسبة لوجهة الاتحاد في مرحلة شائكة، وقد تضعه أمام استحقاقات حرجة.
(AA)

عندما صعد قادة أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية منصّة مؤتمرهم الشهير في مدينة كوبلنز الألمانية، الذي خصّصوه للحديث عن الاتحاد الأوروبي؛ اختاروا رفع أعلام دولهم بطريقة استعراضية، لكنّ علم الوحدة لم يجد من يرفعه في الجوقة. أظهر المؤتمر المنعقد في21 يناير/كانون الثاني2017 ثقة متزايدة تتملّك هذه الأحزاب المناهضة لأوروبا الموحّدة بعد أن صارت لاعباً أساسياً في دول عدّة وواصلت تعزيز نفوذها بعد ذلك أيضاً.

يحبس مسؤولو الاتحاد الأوروبي أنفاسهم مع اقتراب انتخابات برلمان الوحدة، المقررة أواخر مايو/أيار 2019؛ فأحزاب أقصى اليمين تحشد قواها مجدداً لإشغال مزيد من المقاعد النيابية للدورة المقبلة؛ بما سيضع الوحدة في مواجهة مباشرة مع مزيد من السياسيين الذين يناصبونها العداء ويتخذونها مشجباً لتعليق مشكلات الواقع عليه. وسيتفاقم المشهد إن حدثت إزاحات داخل الكتل والمجموعات البرلمانية الأوروبية التي يتوزّع عليها النوّاب باتجاه تتشكّل معه جبهة يمينية متعددة الأطياف تجمعها مواقف مناهضة للاتحاد.

تنتهز القوى المناهضة لفكرة أوروبا الموحدة جولات الاقتراع الأوروبي لتصعيد حملاتها ضد الاتحاد، الذي يتحفّظ عليه بعض السياسيين الذين يشغلون مقاعده البرلمانية في بروكسيل وستراسبورغ؛ حيث يتزايد نفوذ خصومه دورة بعد دورة، وقد ينتزعون هذه المرة خُمس المقاعد أو أكثر.

تنتهز القوى المناهضة لفكرة أوروبا الموحدة جولات الاقتراع الأوروبي لتصعيد حملاتها ضد الاتحاد الذي يتحفّظ عليه بعض السياسيين الذين يشغلون مقاعده البرلمانية في بروكسيل وستراسبورغ.

حسام شاكر

يملك أقصى اليمين حظاً وافراً لتحسين حظوظه في المنصّة التشريعية المعبِّرة عن شعوب القارة الموحدة في الانتخابات الوشيكة. ويستغل بعض الناخبين فرصة الانتخابات الأوروبية التي يزهدون بها، باستعمالها في توجيه رسالة اعتراض إلى الاتحاد وربما إلى حكوماتهم أيضاً، بما يرسو بمزيد من الأصوات في صالح الأحزاب الشعبوية والمتطرفة قياساً بالانتخابات الوطنية.

وما يزيد من وطأة الموقف أنّ أقصى اليمين يواصل تحقيق حضور غير مسبوق في مستويات حكومية وبرلمانية في الدول الأعضاء، حتى صار ضابط الإيقاع السياسي في بلدان عدة؛ من إيطاليا جنوباً إلى إسكندنافيا شمالاً.

أظهرت هذه التطوّرات تصدّعات متفاقمة في البيت الأوروبي في ملفات ساخنة مثل اللاجئين، وأخرى إستراتيجية مثل العلاقة مع الصين وروسيا؛ فحكومة اليمين الشعبوي الإيطالية صدمت أوروبا الموحدة بقرارها الانفرادي القاضي بالالتحاق بمبادرة الحزام والطريق الصينية، وقررت فتح الباب على مصراعيه لنفوذ بكين الاقتصادي وإضعاف الموقف التفاوضي الأوروبي المشترك معها، بينما تبدو المجر تحت قيادة فيكتور أوربان، المعزولة أوروبياً، أقرب إلى بوتين منها إلى مسؤولي الاتحاد.

وتجري هذه التجاذبات على مرأى من رئيس أمريكي ينظر بازدراء إلى أوروبا الموحدة ويواصل ضغوطه الاقتصادية عليها. وكان ستيف بانون، مستشار ترمب السابق، لفت الأنظار في صيف 2018 بحديثه عن ضرورة تكتّل القوى اليمينية المناهضة للاتحاد الأوروبي في انتخابات البرلمان الأوروبي 2019. ويتطلب ذلك تشكيل مشهد نيابي متماسك داخل البرلمان الذي تتوزّع الأحزاب المعنية فيه على كُتل ومجموعات أوروبية غير متجانسة.

ما كان لأوروبا الموحدة أن تصل إلى هذا الوضع لولا الطبيعة البنيوية لمشروع الوحدة الذي نشأ بإرادة السياسيين أساساً؛ فاتفاق الدول في مستويات صناعة القرار المشترك لا يقضي وحده بتعمّق وحدة الشعوب، التي ترى بعض أوساطها في الهوية الأوروبية الجامعة التي جرى تضخيمها في دعاية الاتحاد، تحدياً لهوياتها الوطنية.

يواصل أقصى اليمين تحقيق حضور غير مسبوق في مستويات حكومية وبرلمانية في الدول الأعضاء حتى صار ضابط الإيقاع السياسي في بلدان عدة من إيطاليا جنوباً إلى إسكندنافيا شمالاً.

حسام شاكر

ولا تحظى الآليّات التشريعية في الاتحاد الأوروبي بارتياح الذين يعتبرون أنّ سلطات بلادهم تتلقّى "إملاءات" من بروكسيل وتنصاع لها بلا تردد. أثقل هذا الإحساس بقصور "السيادة الوطنية" أوساطاً من الأوروبيين، ومنهم البريطانيون الذين تحسّسوا حيال تبعية بلادهم لمظلة الوحدة وقراراتها، فاندفعوا إلى الفكاك من الاتحاد في سنة 2016 في استفتاء متعجِّل اتضح لاحقاً أنّ تنفيذ استحقاقه بالغ التعقيد. ولو أنّ رحلة "البريكست" مضت منذ ذلك الحين بانسيابية، لتعاقبت حملات على منواله في دول أعضاء أخرى لإجراء استفتاءات على الانفصال.

وعلى مدار جولات الاقتراع المتعاقبة للبرلمان الأوروبي غلبت على تجاذبات الحملات الانتخابية في الدول الأعضاء مسألة "كم ندفع لبروكسل؟ وكم نأخذ منها؟"، بما اختزل مفهوم الوحدة في حسبة نفعية ساذجة وقصيرة النظر.

ثمّ تفاقم هذا المنطق مع أزمة اللاجئين التي عصفت بالعلاقات الأوروبية البينية منذ خريف 2015 وأعاقت مقترحات عدة قضى بعضها بما سُمي "تقاسم الأعباء"حيناً و "التوزيع العادل" لطالبي اللجوء على الدول الأعضاء حيناً آخر؛ وهي الدول التي قرّر كثير منها التنصّل من التزاماتها المقرّرة في هذا الشأن نحو كرامة البشر وحقوق الإنسان أو نحو الاتحاد الأوروبي ذاته.

وبدا خلال ذلك أنّ بعض بلدان وسط أوروبا وشرقها التي التحقت بالأسرة الأوروبية خلال العقد الماضي، مثل بولندا والمجر وسلوفاكيا، تواصل تحدِّي الاتحاد ومعاندته في بعض الملفات حتى عندما ترأس إحداها الاتحاد الأوروبي؛ كما فعلت سلوفاكيا خلال النصف الثاني من سنة 2016.

حفّزت مواقع التواصل الاجتماعي سخرية الأوروبيين من الاتحاد بينما صعدت القوى الشعبوية في المشهد الأوروبي مستفيدة من تحوّلات عدة منها تآكل الأحزاب التقليدية الكبرى الراسخة.

حسام شاكر
وتحظى واشنطن بتأثير لا تخطئه العين على السياسة الخارجية لهذه الدول منذ أن تحوّلت عن الاشتراكية وانعطفت نحو اقتصاد السوق الليبرالي وانضوت في حلف شمال الأطلسي. سمحت هذه العلاقة الخاصة لإدارة ترمب، مثلاً، بأن تعقد مؤتمراً مثيراً للجدل في وارسو في فبراير/شباط الماضي تحت لافتة الحشد ضد إيران، رغم استياء الاتحاد الأوروبي من انعقاده وإحجامه عن المشاركة فيه.

تختلف صورة التشرذم الجديدة عن تلك "الصورة العائلية" التقليدية؛ التي اعتاد قادة أوروبا الاصطفاف للظهور فيها مع ابتسامات عريضة في ختام اجتماعات القمم؛ ففي سنوات خلت كانت فكرة أوروبا الموحدة تزدهر على الأرض وتحظى بإجماع قادة الدول والحكومات، كما لم تكن لشعوبهم منصّات شبكية لإطلاق تعبيرات لاذعة نحو بيروقراطية الوحدة.

لكن مواقع التواصل الاجتماعي حفّزت سخرية الأوروبيين من الاتحاد، بينما صعدت القوى الشعبوية في المشهد الأوروبي مستفيدة من تحوّلات عدة منها تآكل الأحزاب التقليدية الكبرى الراسخة، وهو ما يمنح اليمين المتطرف وزناً أكبر ويُغري يمين الوسط بانتحال شعارات ومضامين أكثر يمينية لتحسين فرصِه الانتخابية.

مع انقشاع هالة الشعارات الحالمة عن الوحدة الأوروبية؛ صارت الحملات الانتخابية تتنافس في تملّق المزاج الجماهيري الحانق بإظهار الصرامة مع "بروكسل". يشير اسم العاصمة البلجيكية في هذا المقام إلى "أولئك الجالسين هناك" في بيروقراطية الاتحاد، بينما يوحي بعض المرشحين للبرلمان الأوروبي بأنّ الوقت حان لتصفية الحساب معهم عبر الصناديق في جولة الانتخابات الوشيكة. إن بدت انتخابات البرلمان الأوروبي في عيون شعوب القارة موسماً سياسياً ثانوياً في العادة، فإنّ جولة 2019 تكتسب أهمية مضاعفة بالنسبة لوجهة الاتحاد في مرحلة شائكة، وقد تضعه أمام استحقاقات حرجة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي