شكّل فتح جماعة أنصار الله الحوثيين جبهة اليمن ضدّ إسرائيل ومصالحها في البحر الأحمر، أحد أبرز الأحداث غير المتوقعة التي تلت عملية طوفان الأقصى التي نفذها الجناح العسكري لحركة حماس ضد مواقع الجيش الإسرائيلي في منطقة غلاف غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وربطت الجماعة التصعيد وجوداً وعدماً بالوضع في جبهة قطاع غزة، إذ اشترطت وقف العدوان على القطاع وإدخال المساعدات الإنسانية لوقف تصعيدها.
ولإظهار جديتها في تهديداتها، اتجهت "أنصار الله" إلى إعلان أنها لن تسمح بمرور أي سفينة مرتبطة بإسرائيل من مضيق باب المندب جنوبي البحر الأحمر، وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلنت الجماعة أنها احتجزت أول سفينة واسمها "غالاكسي ليدر" والتي تعود ملكيتها إلى رجل أعمال إسرائيلي وجرى اقتيادها إلى السواحل اليمنية، الأمر الذي اعتبرته إسرائيل تطوراً خطيراً على المستوى العالمي، وبذلك نجحت الجماعة في إظهار العلاقة العالية نسبياً بين المخاطر الجيوسياسية المتزايدة في الشرق الأوسط وتحديداً في البحر الأحمر وعدوان إسرائيل.
ويُعد البحر الأحمر جيو اقتصادياً-سياسياً أكثر اتساعاً من البحر الأحمر جغرافياً، وذلك بالنظر إلى أن أي اضطرابات فيه قد تصل إلى العالم ككل، فضلاً عن كونه من أهم الطرق التجارية البحرية عالمياً، الأمر الذي أثار مخاوف من حدوث اضطرابات جديدة في التجارة الدولية بما يشمل سلاسل التوريد العالمية وإمدادات الطاقة.
وبذلك، فإن التوترات الجيوسياسية في منطقة البحر الأحمر ستكون لها تداعيات على الاقتصاد العالمي، لا سيّما في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وارتباط تلك التوترات باستمرار العدوان على غزة في ظل فشل إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها المعلنة للحرب حتى الآن، بالإضافة إلى احتمالية خروج المواجهات في جبهة جنوب لبنان عن قواعد الاشتباك إلى مواجهة مفتوحة.
وفي ظل تصاعد استهداف الحوثيين للسفن الإسرائيلية أو السفن المتوجهة إلى المواني الإسرائيلية، أعلنت كبرى شركات الشحن العالمية تعليق المرور من البحر الأحمر، مثل "ميرسك" الدنماركية و"هاباج لويد" الألمانية و"MSC" السويسرية و"CMA CGM" الفرنسية، والتي تمثل معاً قرابة 50% من شحن الحاويات حول العالم، فضلاً عن إعلان عملاق النفط البريطاني "بريتش بتروليوم بي" وقف الشحنات عبر البحر الأحمر، وغير ذلك من الشركات.
الأمر الذي دفع البحرية الأمريكية والبريطانية إلى تعزيز وجودهما وشن هجمات عسكرية لردع تهديدات الحوثيين للملاحة الدولية في البداية، الأمر الذي ترك تداعيات اقتصادية كبيرة في ظل التوترات الآخذة في التصاعد في الممر الحيوي، وسنحاول في هذا المقال توضيحها.
الأهمية التجارية للبحر الأحمر
يشير العديد من التقديرات الدولية إلى أن نحو 12% من التجارية العالمية ككل تمرّ من البحر الأحمر، ونحو 40% من التجارة البحرية الدولية، وقرابة 20% من تجارة النفط العالمية. الأمر الذي يزيد من احتمالية التداعيات الكبيرة على الاقتصاد العالمي في ظل تصاعد التوترات ومحاولة "الحوثيين" التحكم بالملاحة في مضيق باب المندب.
إلى جانب ذلك، فإنّ البحر الأحمر يعد طريقاً حيوياً للتجارة بين الشرق والغرب يوفر الوقت والتكلفة، وتشير التقديرات إلى أن شركات الشحن البحري الكبرى حوّلت مسار أكثر من 200 مليار دولار من السلع حتى الآن من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح حول إفريقيا.
الآثار على الاقتصاد الإسرائيلي
تشكل التجارة الخارجية السلعية نحو 35% من حجم الاقتصاد الإسرائيلي، والتي تجري في معظمها عبر البحر، نظراً إلى أن إسرائيل لا تمارس أي تجارة عن طريق البر، وهو ما يزيد من أهمية الطرق التجارية البحرية لإسرائيل.
وجاء استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، في ظل تكبد الاقتصاد الإسرائيلي لخسائر فادحة منذ بدء الحرب، إذ قدّر بنك إسرائيل المركزي تكلفة الحرب بأكثر من 50 مليار دولار، فضلاً عن اتجاه إسرائيل إلى الاعتماد على الاستيراد لتغطية الطلب المحلي في ظل تعطل معظم القطاعات الاقتصادية، نظراً إلى إعلان حالة الحرب واستدعاء أكثر من 300 جندي من الاحتياط ومغادرة العمالة الأجنبية.
وتمثلت أبرز التداعيات المباشرة، في تراجع النشاط التجاري لميناء إيلات بنسبة 85% وفقاً لصحيفة "غلوبز" الاقتصادية، إلى جانب ذلك، فإن طريق رأس الرجاء الصالح البديل، يطيل وقت السفن لمدة تتراوح من أسبوعين إلى ثلاثة، مما يتسبّب في تكلفة إضافية على الشحن، فضلاً عن التأثير في سلاسل التوريد ما يؤدي إلى رفع الأسعار، إذ أعلنت العديد من الشركات إغلاق بعض متاجرها الإلكترونية، نظراً إلى الصعوبات التي تواجهها سلاسل التوريد إلى إسرائيل.
أدت الهجمات إلى رفع تكلفة الشحن لكل حاوية من الصين إلى ميناء أسدود بحوالي 14% منذ بدء الحرب، ونظراً إلى الاختناق المروري للسفن عند ميناء أسدود، لجأت العديد من الشركات إلى تحويل سفنها نحو ميناء حيفا، وأعلنت بعض الشركات أنها ستزيد 100 دولار كمخاطر لكل حاوية.
وفي السياق ذاته، من المحتمل تراجع التبادل التجاري لإسرائيل مع الدول الآسيوية، نظراً إلى ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين والمخاطر الأمنية، الأمر الذي سيقود في النهاية إلى اضطراب سلاسل التوريد وتعميق أزمة الاقتصاد الإسرائيلي الحالية، ما يؤدي في النهاية إلى آثار سلبية على المؤشرات الكلية، ولا سيّما معدل التضخم، كما أن هذه التأثيرات قد تتضاعف مع تزايد الضغوط على إسرائيل في حال اتجهت دول أخرى لحظر الشحن البحري لها، كما فعلت ماليزيا.
التداعيات الإقليمية
رغم أن هجمات "الحوثيين" تهدف بالأساس إلى الإضرار بالاقتصاد الإسرائيلي، إلا أنها ستترك أثراً على العديد من اقتصاديات المنطقة، وفي مقدمتها الاقتصاد المصري الذي يعاني أزمة منذ سنوات.
ومن المتوقع أن تتراجع إيرادات قناة السويس والتي بلغت 9.4 مليار دولار في السنة المالية 2022- 2023، والتي تعد أهم مصادر النقد الأجنبي للبلاد، إذ إن تعليق شركات الشحن لعبور سفنها من البحر الأحمر، سيؤدي إلى تكلفة على مصر تقدر بنحو 600 ألف دولار لكل سفينة.
وتشير تقديرات إلى أن تراجع حركة المرور عبر قناة السويس سيؤدي إلى انخفاض عائدات الخدمات المصرية بنحو نصف مليار دولار خلال الأسابيع الستة القادمة.
وفي ظل استمرار التوترات في البحر الأحمر، فإن عائدات قناة السويس سوف تتراجع، وبالتالي عائدات مصر من العملات الأجنبية، ما يفاقم الوضع الاقتصادي وتحديداً خلل الرصيد الخارجي، وقد يدفعها إلى البحث عن مصادر أخرى للنقد الأجنبي لتعويض ذلك.
من جانب آخر، من المرجح أن يتأثر الأردن بذلك أيضاً، لا سيّما أنه يعتمد على ميناء العقبة المجاور لميناء إيلات، والذي لا يوجد بديل للأردن عنه في تجارته الخارجية المنقولة بحراً.
التداعيات على الاقتصاد العالمي
يُعد قطاع الشحن البحري العالمي هو المتأثر الأول والمباشر بتوترات البحر الأحمر، إذ اتجه العديد من شركات الشحن البحري إلى تغيير مسار سفنها لتبحر حول طريق رأس الرجاء الصالح، مما يزيد من وقت وصول السفن إلى واجهاتها إلى أكثر من أسبوعين، الأمر الذي سيسبب ضغوطاً إضافية على سلاسل التوريد العالمية.
إلى جانب ذلك، قرّرت أيضاً العديد من الشركات زيادة التكلفة، مثل شركة "CMA CGM" والتي تعتزم زيادة رسومها على الشحن بنسبة 100% اعتباراً من 15 يناير/كانون الثاني الحالي لعمليات الشحن المرتبطة بآسيا والبحر المتوسط، وسبق أن رفعت "ميرسك" رسومها الشهر الماضي، ما يضيف 700 دولار على تكلفة شحن الحاوية من الصين إلى أوروبا.
ورفعت شركة الشحن العالمية رسومها بما يتراوح بين ألف وألفَي دولار لكل حاوية، فيما قالت "هاباغ لويد" إنها تكبّدت تكاليف بعشرات الملايين من اليوروهات، نتيجة تحويل مسار 25 سفينة الشهر الماضي، كما رفعت بعض شركات التأمين الأسعار بنسب متفاوته تصل إلى 300%، إذ أدرجت سوق التأمين في لندن جنوب البحر الأحمر ضمن المناطق عالية المخاطر.
وبذلك يتضح أن تكاليف الشحن البحري تتجه إلى الارتفاع بشكل ملحوظ وكبير وسط استمرار التوترات في مضيق باب المندب، وقد تكلف الطرق البديلة وقوداً إضافياً يصل إلى مليون دولار للرحلة الواحدة ذهاباً وإياباً بين آسيا وشمال أوروبا.
وأشارت "بلومبرغ" إلى أن سعر شحن البضائع من آسيا إلى شمال أوروبا قد قفز بنحو 173% عن ما كان عليه قبل تحويل مسارات السفن في منتصف الشهر الماضي.
ومن جانب آخر، قفزت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بنسبة 13%، في أقوى إشارة منذ بدء الحرب إلى تأثر إمدادات الطاقة بالتوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، كما أن أسعار النفط الخام مهددة بالارتفاع في الأسواق العالمية، ما سيضيف مزيداً من الضغوط المالية على الدول المستوردة، ومن المتوقع أن تكون توجد آثار واضحة على النمو الاقتصادي والتضخم في منطقة اليورو، ما لم يجرِ احتواء التوترات الجيوسياسية وضغوط أسعار الطاقة.
أيضاً، هناك خشية من أن ارتفاع أسعار الشحن البحري واضطراب سلاسل الإمدادات، يؤدي إلى عودة شبح التضخم للارتفاع في الاقتصاد العالمي، وهو ما يضع البنوك المركزية الرئيسية أمام تحد فيما يتعلق بمسار خفض معدلات الفائدة المتوقع والتيسير الكمي، فضلاً عن تباطؤ حجم التجارة العالمية الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف، إلى التأثير السلبي على الاقتصاد العالمي ولا سيما معدلات النمو الاقتصادي.
الخلاصة
حتى الآن، لا يزال الحوثيون يتعاملون مع السفن التجارية بانتقائية؛ إذ يركزون على السفن ذات العلاقة بإسرائيل، ولا تزال التداعيات الاقتصادية في الحدود التي يمكن احتواؤها، لا سيّما على الصعيد العالمي، ولكنها قد تزداد سوءاً في ظل احتمالية تصاعد التوترات بين "الحوثيين" ودول تحالف "حارس الازدهار"، إذ هددوا بأن أي دول تشارك في التحالف فإنها ستفقد أمنها البحري.
وفي حال تحقق ذلك، فإن الآثار ستكون كبيرة على التجارة العالمية وإمدادات الطاقة، وستهدد الاقتصاد العالمي على نحو مماثل لصدمة "كوفيد-19"، وصدمة الحرب الروسية على أوكرانيا.
ومن المرجح أن يكون التأثير في اقتصاديات المنطقة وشمال إفريقيا والاقتصاديات الأوروبية، والتي ترتبط اقتصادياتها بالوضع في البحر الأحمر أكبر من غيره.