النساء السوريات والأوكرانيات.. الواقع والادعاءات
تصدرت وسائل التواصل مؤخراً صورة ملكة جمال أوكرانيا السابقة حاملة السلاح وسط ادعاءات تؤكد انخراطها في الدفاع ضد الغزو الروسي.
ملكة جمال أوكرانيا السابقة (Others)

وأصبحت الحادثة الخبر الأول في وسائل الإعلام، على الرغم من تأكيد صاحبة الصورة أنها لم تنخرط في العمليات العسكرية وأن تاريخ الصورة يعود إلى ما قبل اندلاع الحرب.

أججت تلك الصورة أزمة المقارنة بين الحالتين السورية والأوكرانية على الرغم من اختلافهما الجوهري في جوانب عدة، الأمر الذي لم يصبّ في صالح الحالة السورية من الجانب الإعلامي والاجتماعي على حد سواء.

الناشطة السورية طل الملوحي (Others)

يبدو أن آلة الحرب الغازية للبلدين أسهمت في التسبب بذلك اللغط، ذلك أن شن الحرب من الجانب الروسي على البلدين لا يعني على الإطلاق تشابه الحالتين أو إمكانية مقارنتهما.

تفتح هذه المقارنة الباب لمقارنات كثيرة قد تصب في غير محلها أهمها رد الفعل العالمي تجاه استقبال اللاجئين ووضوح حالة الكيل بمكيالين بالمقارنة مع إغلاق الأبواب في وجه اللاجئين السوريين، إضافة إلى التصريحات العنصرية التي أدلى بها بعض المحللين ومراسلي القنوات الإخبارية.

النقطة الإيجابية الأخرى التي تشكل فارقاً لصالح الحالة الأوكرانية هو إمكانية حضور الإعلام لتوثيق اللحظات كافة، وبثها للعالم لحظة بلحظة وهذا ما حُرِمت منه الثورة السورية، إذ إن وجود كاميرات ترصد الحدث وتوثقه بدقة كان محرماً وممنوعاً وقد يسبب لحاملها تهمة تودي به خلف القضبان، فكانت النتيجة غياب التوثيق الإعلامي تارة وتلقي صفعاته وانتقاداته غير الواقعية والمخالفة للواقع تارات كثيرة، وبقيت كثير من حقائقها مكتومة، وأسيرة سرديات مبتورة ومشوهة.

لقد استخدمت تلك المقارنات على الأكثر في محاولة للنيل من المشاركة النسائية في الثورة السورية وإنكار دفاع النساء السوريات عن بلادهن، كما شهدت التعليقات المتداولة اتهامهن بالهروب والتخلي عن واجب الحماية المفروض على كل مواطن.

مما لا شك فيه أن الإشادة ببسالة وتفاني الشعب الأوكراني في الوقوف في وجه العدوان الخارجي على بلاده أمر يستحق الاحترام، لكن ذلك لا يعني غض النظر عن حقائق وثوابت يعرفها متابعو التفاصيل الدقيقة للثورة في سوريا.

لقد شهدت الثورة السورية في بداياتها مشاركات نسوية ظاهرة حتى إن بعض الأيقونات اللاتي خلدهن أرشيف السوريين كن أسماء نسائية واضحة، ولا تزال مآثرهن تتردد حتى اليوم بين أوساط المشاركين في الثورة، وبعملية بحث بسيطة نكتشف أن ادعاء غير ذلك يشكل ظلماً لأسماء قادت الحراكات السلمية وأسهمت في أن تتولى القيادة وكنّ مؤثرات في الجمهور الثوري آنذاك من أمثال فدوى سليمان ومي سكاف، كذلك تذوقت نساء كثيرات مرارة الحصار الذي عاشته المدن السورية ورفضن التراجع وآثرن العيش في المخيمات لتقديم ما يستطعن تقديمه، علاوة على نساء كثيرات لم يكن من نصيبهن فرصة الظهور الإعلامي واخترن العمل بصمت بلا ضجة أو استعراض.

اعتاد السوريون مواجهة اتهامات مختلفة بخصوص الثورة، واعتادت النساء، أكثر، تلقي اتهامات أكثر تارة من مجتمع ورأي عام يحاول تقزيم فعلهن في السلم وفي الحرب، أو في عالم يحاول اتهامهن اليوم بالتخاذل في واجب الدفاع عن القضية السورية والاكتفاء بمزايا اللجوء باعتباره منفعة ومكافأة.

إن من عاصر بدايات الثورة السورية يعرف أن اعتقال طلّ الملوحي التي لم تكن تتجاوز الثامنة عشر في حينها كان من أوائل تباشير الحراك السوري، لأنها عبرت بداية عن رغبة بتغيير الواقع السياسي السوري، ثم غُيبت بعد ذلك في سجون النظام دون أن تحظى بمحاكمة عادلة.

نساء أخريات قدن مظاهرات الحرية وهتفن ضد القمع السياسي ووقفن في وجه الرصاص الحي وحملن اللافتات مع الرجال جنباً إلى جنب وكن من أوائل من قدمن حياتهن قرباناً لتحقيق هدف سياسي واجتماعي في التغيير، فقد دفعت المرأة السورية ثمناً باهظاً بثورتها لا ضد النظام فحسب، وإنما بوقوفها في وجه الجماعات المتطرفة التي غيبت كل من رزان زيتونة وسميرة خليل بسبب نضالهما لتحقيق دولة مدنية وديمقراطية.

لا يتوقف الأمر عند ذلك الحد فأعداد النساء السوريات في معتقلات النظام السوري قد تتجاوز أعداد الرجال وفقاً لروايات الناجين والناجيات كما لا يخلو الأمر اليوم من بعض الحراكات السلمية التي تقودها نساء في الخفاء أيضاً إلى جانب عملهن على الصعيد الإنساني في المخيمات.

إن الحكم على الأشياء في بداياتها ـ وأعني في ذلك من جعل من المقارنات الحالية طريقة لإصدار الأحكام للنيل من النساء السوريات ـ قد يفتقر إلى الموضوعية وقد يكون مبنياً على أسباب تفتقد الحيادية، فكلما طال أمد الحرب قد يتغير كثير من المفاهيم التي قد تعد مقدسة في البداية بمعنى أن طول المدة الزمنية مثلما حدث بخصوص الثورة السورية قد يجعل الإعلام يغير خطابه بحسب التغيرات السياسية، أو قد تصبح الحرب روتيناً طبيعياً قد لا يأخذ مساحته في الإضاءة الإعلامية.

من الجائر تسليط الضوء على الثورة السورية اليوم بهذا الشكل السلبي ذلك أن في اتهام النساء السوريات بأنهن لم يتحليْن بالشجاعة للدفاع عن رأيهن السياسي فيه مغالطة فاضحة ومخالفة للواقع خاصة وأن اختلاف التجربتين أمر جليّ في حد ذاته، فالثورة السورية لم تكن بمواجهة غزو خارجي فحسب، بل في مواجهة نظام دموي يرفض التغيير السياسي وبمواجهة قوىً إقليمية هدفها إحكام السيطرة على المنطقة فيما تخلى العالم عن دعمها، بينما نجد دعماُ عالمياً للحالة الأوكرانية حتى في روسيا نفسها.

لقد غفلت التحليلات والمقارنات السياسية عن كل ما سبق واكتفت بالانتقاص من قدر المشاركات النسائية في العمل السياسي والعسكري في سوريا، فقد أخذت النساء حصتها من قيادة المظاهرات ومحاولة تشكيل وعي ثوري وجمعي إضافة إلى خوض تجربة الاعتقال، ومثلما نقلت الصور الواردة من أوكرانيا حالات نساء حملن السلاح للدفاع عن بلادهن، نقلت أيضاً مشاهد نساء ودعن أزواجهن وذهبن لحماية أبنائهن في الملاجئ، وهذا لا يعيب النساء في شيء، بل قد يعطي رسالة مفادها أن المرأة قادرة على أداء المهمتين وبإتقان حسب الظرف.

إن مروجي مثل هذه الأخبار يحاولون إثبات أن حب الوطن والدفاع عنه حكر على الرجال فقط، وأن النساء لا يملكن الشجاعة للقتال وهذه بحد ذاتها تصريحات لا تخلو من تمييز جندري مرفوض في المطلق.

لقد مُنيت الثورة السورية بكثير من الهزائم من كارثة التدخل الإقليمي والروسي إلى تمزيق حالة الثورة وتحويلها إلى حرب مترامية الأطراف تبلورت في تمزيق الصف السوري الواحد، ومن غير اللائق إنسانياً أن ننزع إلى حالة تشويه تاريخها بإلقاء التهم جزافاً والانتقاص من وطنية السوريات والسوريين.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي