الهجمات المسلحة على القواعد العسكرية والسفارة الأمريكية ومآلاتها على العراق
لم يعرف العراق الهدوء إلا خلال السنة الماضية منذ أن تشكّلت حكومة محمد شياع السوداني على يد الإطار التنسيقي (الشيعي)، لتعود أوضاعه الهشة إلى سابق عهدها وبشكل أعنف بعد 10 أيام من اندلاع الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى اليوم.
هجوم يستهدف قاعدة عين الأسد الجوية في العراق التي تستضيف قوات أمريكية / صورة: Reuters (Reuters)

يختلف العراق عن باقي البلدان العربية التي اكتوت بنار الفصائل المسلحة المنفلتة من إطار الدولة وقواتها النظامية، من حيث ائتمارها بتوجيهات خارجية، فقد وصل عدد هذه الفصائل إلى 79 تشكيلاً رسميّاً، وفقاً لقانون الحشد الشعبي الذي مُرِّرَ برلمانيّاً سنة 2016، رغم مخالفة عدد من فقراته دستور العراق.

وامتلكت الفصائل البارزة منها دبابات ومدرعات ومدافع وصواريخ ومُسيّرات تفوق في مجملها أسلحة تشكيلات الجيش الثقيلة، ويتمتع قادتها وضباطها بدعم إيراني، ويمتلك بعضهم نفوذاً يفوق نفوذ قادة الجيش والقوات الأمنية والاستخباراتية.

ولم يعرف العراق الهدوء إلا خلال السنة الماضية منذ أن تشكّلت حكومة محمد شياع السوداني على يد الإطار التنسيقي (الشيعي)، لتعود أوضاعه الهشة إلى سابق عهدها وبشكل أعنف بعد 10 أيام من اندلاع الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى اليوم.

وذلك بعد أن شنت "فصائل المقاومة العراقية" هجمات بمُسَيّرات وصواريخ ذات طُرُز أحجام ومديات مختلفة على قواعد ومعسكرات في أرض العراق وسوريا تحتضن قوات دولية بقيادة أمريكية، بهدف "دعم المقاومة الفلسطينية في غزة"، ولاحقأً "ضرورة إخراج القوات الأمريكية من العراق وكل المنطقة".

الجهات الضاربة

الفصائل الأربع الضاربة التي كُشِفَت أسماؤها هي "كتائب سيد الشهداء، حركة النُجَباء، كتائب حزب الله العراقي، كتائب الإمام علي"، وكلّهم لا يؤمنون بمفهوم الدولة الحضارية، بل يزهون بتبعيتهم المذهَبية للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية، علي خامنئي، ولا ينكرون ارتباطهم بالحرس الثوري وفيلق القدس الإيراني المسؤول عن التخطيط للعمليات المسلحة وتنفيذها خارج الحدود الإيرانية.

لكن وزير الدفاع الأمريكي لدى مهاتفته رئيس الوزراء العراقي يوم 9 ديسمبر/كانون الأول الجاري، شخّص فصيلَين من هذه الأربع، وهما "النُجَباء وسيد الشهداء"، اللذان توعّدهما برد حاسم إذا ما واصلا هجماتهما على البعثات الدبلوماسية، وعرّضا أرواح العسكريين الآتين إلى العراق بدعوة رسمية من حكومتها باتفاقيات وبروتوكولات مبرمة بين الدولتين.

وحتى 8 ديسمبر/كانون الأول، أعلن الجانب الأمريكي أن عدد الاعتداءات على قوات التحالف بلغ 86 ضربة مختلطة، توزعت بالمناصفة بين الأراضي العراقية وشرقي سوريا، أي بمعدل (1.7) ضربة باليوم الواحد بدءاً من 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وجُرِحَ جراء هذه الضربات 66 جنديّاً أمريكيّاً دون أي قتيل، واشتملت 4 مواقع في العراق من مجموع 12 موقعاً، هي قاعدة عين الأسد الجوية غربي البلاد، وقاعدة فيكتوري الجوية في النصف العسكري من مطار بغداد الدولي، ومطار الحرير العسكري في أقصى شمالي العراق، والنصف العسكري من مطار أربيل الدولي.

في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، زار وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن بغداد لساعة واحدة، مرتدياً سترة واقية من الرصاص في إشارة لانعدام الأمان.

ووجه بلينكن تهديداً نحو الفصائل العراقية المسلحة، لكنها تحدّته في الليلة ذاتها بقصف صاروخي أعنف من سابقاته على قاعدة "التَنَف" الأمريكية وسط المثلث العراقي السوري الأردني، فيما سارع رئيس الوزراء العراقي مساء ذات اليوم إلى مصدر القرار في "طهران"، وعاد ليلاً خالي الوفاض دون وعد لكبح جماح هذه الفصائل.

الردود الأمريكية على الهجمات

الحق يُقال، إن القيادة الأمريكية صبرت كثيراً على غير عادتها حتى 10 نوفمبر/تشرين الثاني، على القصف المتبادل بين الفصائل العراقية والقوات الأمريكية في شرقي سوريا، حتى أطلقت 4 طائرات أمريكية مأهولة مقذوفاتها على مقر قيادة وتحكم فصائلي، فلقي 9 مقاتلين مصرعهم، 6 منهم عراقيون و3 إيرانيون، لكن الفصائل لم تتأخر بالرد على مواقع أمريكية بالمنطقة والليلة ذاتهما.

وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني، استهدفت مسيّرة أمريكية مركبة قرب بغداد تحمل 5 أشخاص من بينهم شاب خبير بالصواريخ من فصيل "النجباء" وصرعتهم جميعاً، وذلك لاتهامهم بمحاولة قصف مطار "فيكتوري" العسكري المتاخم لمطار بغداد الدولي.

ويُعَدّ يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني بمثابة نقطة تحوّل بين الطرفين، عندما أعلنت "واشنطن" أن فصيلاً عراقياً استخدم للمرة الأولى صاروخاً بالستياً إيرانيّ المنشأ لقصف قاعدة عين الأسد، وفي اليوم ذاته أعلن فصيل آخر امتلاكه زورقاً مُسَيّراً يستطيع استهداف أي سفن تبحر في الخليج العربي بمدى 500 كلم انطلاقاً من "الفاو".

وفي اليوم التالي، 22 نوفمبر/تشرين الثاني، جاء الرد الأمريكي الذي طال انتظاره، بعد أن قصفت طائرة أمريكية منطقة "جرف الصخر"، وأكد الأمريكيون أن 8 أشخاص قُتلوا و14 جُرحوا.

ومع كل ذلك، بدت الفصائل المسلحة العراقية لم تُردَع لتكفّ عن تحركاتها، فإضافة لقصفها عدد من المعسكرات الأمريكية في سوريا والعراق، فقد هاجمت مجموعة مشاة، منها بشكل مباشر قاعدة عين الأسد بالبنادق والرشاشات وقاذفات "RPG"، ولو لم تحقق شيئاً على أرض الواقع.

قصف السفارة الأمريكية

وبعد توالي ضربات الفصائل المتواصلة على القوات الأمريكية، أقدمت الأخيرة يوم 3 ديسمبر/كانون الأول، على قتل 5 من مقاتلي إحدى الفصائل في أثناء إعدادهم لتنفيذ هجوم بطائرة مُسيّرة في ضواحي مدينة كركوك تمهيداً لإطلاقها على هدف أمريكي في العراق.

وردّاً على ذلك، قرروا استهداف مبنى السفارة الأمريكية دون ضحايا وخسائر، ومن موقع غير بعيد وسط المنطقة الخضراء المحصنة في قلب بغداد، وهذا ما أحرج شخص رئيس الوزراء العراقي وأعضاء حكومته الذين كان لأولئك القادة دور كبير في تنصيبهم على سدة الحكم قبل سنة ونيف من الأشهر.

ما الذي ينتظر العراق؟

وبذلك بلغت الأمور إلى شبه اللا عودة على إثر تهديدات أمريكية غاضبة على لسان كبار مسؤوليها، تقابلها وَعيد الفصائل بأن أمام واشنطن إما سحب جنودها بالكامل أو "إعادتهم أشلاءً إلى أهليهم"، وهذا ما جعل رئيس الوزراء في حيرة بين أن يقف مع هذا الجانب أو يميل لذاك.

فالأول يسند حكومته في مجالات عديدة وخطيرة ويتسلّط باتفاق ثنائي على عشرات المليارات من مبيعات النفط العراقي، وله الفضل في تخليص العراق من تنظيم "داعش" الإرهابي (2014-2017)، فيما يمتلك الثاني سطوة السلاح المُسيّس والدعم الإيراني المتحكِّم بالبلاد، وهو بلا إياهما لم يكن يتبوّأ رئاسة الوزراء.

الرد الأمريكي العنيف وبالسلاح الثقيل والقتل أعاد مطالبات الفصائل الخامدة لإخراج القوات الأمريكية من العراق إلى حيز الوجود، دون تقدير قادتهم الصعوبات البالغة التي تعتريهم، لكون التمركز الأمريكي لم يتحقق إلّا برجاءات من ثلاث حكومات سابقة في أعوام 2008، 2011 و2014.

إن أمريكا المتحكمة في معظم العالم تعمل وفق استراتيجيتها الخارجية حتى على دول عظمى وكبرى، وبالأخص تحت ظلال أوضاع إقليمية ودولية تفرض أوزارها بالوقت الراهن، فإنها لن تخضع لإرادة فصائل مسلحة في دولة كالعراق، فيما يرى عدد من قادة الفصائل الحالمين والخاضعين لرؤى إيران أن السلاح هو السبيل الوحيد لذلك دون اللجوء إلى البرلمان والدبلوماسية.

ونحن نرى أن ترك القوات الأمريكية العراق بطلب من حكومته شيئا قد يحصل نظرياً، مع تحمّل نتائجه الخطيرة، وأن فصائل أخرى تعلن تأييدها (الإعلامي) تدرك أن خروجها سيُلقي ظلالاً أمنية وعسكرية قاتمة على العراق.

ويُضاف إليها جملة من المعضلات الاقتصادية والمالية والنقدية السلبية للغاية، وكذلك السياسية والدبلوماسية والثقافية، فالولايات المتحدة تنفذ استراتيجيتها بأساليب تتجاوز حتى إرادة دول عظمى وكبرى، ومن المؤكد أن العراق وفصائله المسلحة المتناغمة مع إيران ليس من بينها مهما بلغت من قوة وإصرار.

ولا بد من التذكير أن غياب المستشارين والمدربين والفنيين الأمريكيين المسؤولين عن إدامة وصيانة الطائرات والدبابات والمدافع والأسلحة الثقيلة الأخرى ذات المنشأ الأمريكي، سيجعل الجيش العراقي يفقد أكثر من ثلاثة أرباع قدراته القتالية في غضون أشهر معدودات، ناهيك بشبه انعدام لتحصيل المعلومات الاستخباراتية الرصينة وتشغيل الرادارات ووسائل السيطرة على الأجواء وحركة الطائرات ومراقبة الحدود، يُضاف إليها شبه استحالة الحصول على العتاد والذخائر الثقيلة وقطع الغيار من مصادر غير أمريكية.

أما موضوعة السيطرة الأمريكية الكلية على موارد العراق النفطية بالدولار، وعدم تحويلها إلّا عن طريق الخزانة الأمريكية والبنك الفيدرالي الأمريكي، فإنها ستعيد العراق إلى أوضاع اقتصادية ومالية أشبه ما تكون بما لاقاه من الحصار الذي فُرِضَ عليه للفترة (1991-2003)، وقد تعيده تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي