استقالة الصدريين.. تصعيد ينبئ بصيف سياسي ساخن
بما يشبه الجمل الدرامية الصادمة في الأفلام قال النائب الثاني لرئيس البرلمان العراقي، والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، شاخوان عبد الله، إن التحالف الثلاثي انتهى.
رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر (Reuters)

جاء ذلك في خضمّ التعليقات المتلاحقة من قبل معظم الأطراف السياسية العراقية على الحدث الأبرز في الساحة السياسية العراقية خلال الإسبوع الماضي، استقالة النواب الصدريين الثلاثة والسبعين من البرلمان، استجابة لطلب زعيمهم مقتدى الصدر.

كان التحالف الثلاثي الذي يضمّ مع الصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف "السيادة" السنّي بزعامة الحلبوسي، رئيس البرلمان، قويّاً ومتماسكاً حتى قبل يوم من الإعلان المفاجئ عن استقالة الصدريين، وكان موقف هذا التحالف الثلاثي صلباً لإقرار قانون الدعم الغذائي، الذي قدّمه الكاظمي، رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال، بدعم من الصدر. وخاض هذا الفريق نزاعاً كلامياً صاخباً مع الكتلة الشيعية المنافسة "تحالف الإطار التنسيقي" التي تضمّ معظم الفصائل والتيارات السياسية المقرّبة من إيران.

كان إقرار هذا القانون انتصاراً للصدر، رغم المخاوف بشأن رأي المحكمة الاتحادية غير المعلن حتى الآن، والذي سيأتي ردّاً على استفسار النائب المستقلّ باسم خشّان، بشأن دستورية هذا القانون.

إنها تحولات دراماتيكية سريعة، في ظرف أربع وعشرين ساعة، جعلت العديد من المراقبين والمعنيين بالشأن السياسي العراقي يُقِرّون بالعجز عن التنبؤ بما سيجري لاحقاً، فهل خطوة الاستقالة جادة فعلاً، أم هي مجرد مناورة أخرى من الصدر لإحراج خصومه "الإطاريين"؟

مخاض كل النقاشات والحوارات في البرامج التليفزيونية العراقية وتفاعلات المدونين على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، تحصر التخمينات بالتطورات اللاحقة في خانتين:

الأولى أن ما حدث مجرد نقلة "صدرية" جديدة على رقعة الشطرنج السياسي، وأن الصدر ينتظر تنازلات من قوى الإطار الشيعي، حتى يعدل عن الاستقالة الجماعية لنوّابه، أصحاب الكتلة الأكبر في البرلمان.

الثانية أن كلام شاخوان عبد الله قاطع وجازم، فلا عودة للنوّاب المستقيلين، والتحالف الثلاثي صار بحكم المنتهي، وأن قوى الإطار التنسيقي ستتجرأ لتملأ الفراغ الذي خلّفه غياب الصدريين، لتبدأ مفاوضات تشكيل الحكومة مع السنّة والكرد، بمعزل عن الصدر.

في ما يخصّ الاحتمال الأول فإن العرف السياسي يُعَدّ أكثر قوّة في الحياة السياسية العراقية من القواعد الدستورية، فحتى إن لم تكن موادّ قانونية تجيز عودة المستقيلين من النواب، فلا أحد سيدقّق إن فعلها وعاد الصدريون المستقيلون. ولنا في عودة النائب المستقيل من البرلمان في هذه الدورة ليث الدليمي، سابقة أولى، تؤكّد عدم اكتراث السياسيين بالقواعد الدستورية، ما دام الخصوم قادرين على إنجاز تسويات بديلة.

وفوق ذلك فإن قواعد العمل السياسي العراقية لا تحتمل الخروج المؤقت لطرف سياسي من الساحة، لأن ذلك يؤذن بنهاية مسيرته السياسية، فخروج الصدر من البرلمان ومن الحكومة القادمة سيحرمه من موارد ونفوذ وسلطة هي في الغالب، كما لدى الأطراف السياسية الأخرى، مهمة لإدامة زخمه السياسي. وهذا الخروج بطريقة الاستقالة الجماعية لم يجرّبه طرف سياسي سابقاً، لأن الجميع يدرك خطورة الابتعاد عن منافع السلطة.

وبالمتابعة مع هذا السيناريو، فإن إقرار قانون الأمن الغذائي، البديل عن إقرار الموازنة التي تتطلب حكومة جديدة، فشل تحالف الصدر في تقديمها والتصويت عليها، سيوفّر موارد مالية كافية لإدامة عمل حكومة الكاظمي ذي الولاية المنتهية، وسيمتدّ عمر هذه الحكومة (المدعومة من الصدر) خارج الغطاء الدستوري ما شاء الله لها أن تمتدّ، بسبب تخمينات الصدريين أن قوى الإطار ستفشل في تشكيل تحالف حكومي بديل لعدة أشهر قادمة. وبقرار الانسحاب من البرلمان فإن الصدر وضع قوى الإطار التنسيقي في مواجهة ما جنته أيديهم خلال الأشهر الثمانية الماضية من تحريض ضد الأطراف السياسية السنّية، وقصف بالصواريخ على أربيل، عاصمة إقليم كردستان ومقر الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأثارت هذه الصواريخ "الإطارية" غضب ساسة أربيل، وعزّزت قناعتهم بصعوبة الحوار مع قوى تستخدم التهديد والتحريض.

سيُضطرّ ساسة الإطار التنسيقي إلى نسيان اتهاماتهم لكرد أربيل بأنهم ذراع الموساد في العراق، كما أنهم سيكونون في موقف ضعيف يدفعهم إلى تقديم تنازلات لضمّ الكرد والسنّة في تحالفهم الحكومي المفترض. وسيتمتع الكرد والسنّة بموقع جديد هو أشبه بموقع "الثلث المعطّل" الذي ناورت به قوى الإطار الشيعي ضد التحالف الثلاثي سابقاً.

وخلال ذلك سيستثمر الصدر الوقت لمناورات جديدة، مع المراهنة على تفتُّت قوى الإطار التنسيقي الشيعي، وانقسامهم، وهو ما تَبدَّى منذ الآن، فداخل هذا الإطار، على ما يبدو، جبهتان، الأولى تريد "المصالحة" مع الصدر، تتمثل بزعامات هادي العامري وحيدر العبادي، فيما يتمسّك النصف الثاني من الإطار بزعامة المالكي والخزعلي بخيار تجاهل الصدر ما دام انسحب بإرادته، والمضي بتشكيل حكومة دون عودة إليه.

كما أن الصدر يتمتع بشيء غير متوفّر لدى قوى الإطار تجعله في منأى عن دعوات التجاهل، هو الشارع، وهو قادر، في اللحظة التي يراها مناسبة، على تحريك قواعده الشعبية في تظاهرات حاشدة، وقد يتقدم لدخول المنطقة الخضراء وإسقاط الحكومة شعبياً، مع ضمانة بأن قوى الإطار لن تواجه متظاهري الصدر بالرصاص الحيّ، كما فعلت مع التشرينيين سابقاً، فتبعات ذلك مكلفة جدّاً.

وربما بعد أشهر مرهقة سيذهب "جزء من الإطار" إلى النجف لاسترضاء الصدر والطلب منه العدول عن استقالات كتلته البرلمانية، وهو ما كان يرغب به الصدر أساساً: أن يستميل جزءاً من الإطار التنسيقي لتحالفه الثلاثي، ما يوفّر له العدد الكافي من الأصوات للتصويت على رئيس الجمهورية، ومن ثم رئيس الوزراء.

في الاحتمال والسيناريو الثاني، كثير من الدلائل على أن الصدر نفض يده من هذه الدورة البرلمانية، وسيترك قوى الإطار الشيعي دون إزعاجات ولا مناكفات، كي تشكّل التحالف الحكومي الجديد، وقد تحرّك بعض أقطاب هذا الإطار فعلاً نحو حوارات مع الكرد والسنّة، واللحظة الحاسمة لتحوّل هذا المسار إلى أمر واقع، هي قرار مفوضية الانتخابات برفع المرشّحين الخاسرين الأعلى أصواتاً في دوائرهم الانتخابية لشغل مقاعد الصدريين المستقيلين. حينها سينقطع الطريق بشكل حاسم أمام عودة الصدريين، وسيؤدي اليمين الدستورية 73 نائباً جديداً، معظمهم من قوى الإطار التنسيقي.

كأن الصدر هنا يقول لغرمائه الشيعة: "اذهبوا لمواجهة الشارع الذي يرفضكم، ولم يمنحكم أصلاً الأصوات الكافية لتكونوا كتلة كبيرة بالبرلمان أصلاً، وهو الشارع نفسه الذي خرج بتظاهرات تشرين 2019 ضدكم".

وبسبب ذلك فإن التوقعات لا تعطي عمراً طويلاً لحكومة من هذا النوع، وقد تخرج فعلاً تظاهرات شعبية جديدة ضدهم، أو يعمد الصدر نفسه إلى إخراج أنصاره لإسقاط هذه الحكومة والتعجيل بانتخابات جديدة تعيد الميزان لصالحه.

إن قوى الإطار تعي بكل تأكيد هذه التحديات، وإن أدى النواب البدلاء الجدد اليمين الدستورية فعلاً، فإنهم سيفعلون ما بوسعهم لإنجاح الحكومة التي يشكّلونها، وعلى الأغلب سيُضطرّون إلى تشكيل حكومة مستقلّين، أو بشخصيات غير إطارية بشكل فاقع، حتى تضمن قبول المجتمع الدولي للحكومة الجديدة، وأيضاً لاسترضاء الصدر، وحتى تكون هذه الحكومة غير الإطارية في مواجهة تِلَال المشكلات الكبرى في الواقع العراقي اليوم، فإن نجحت في حلّها، وهذا مستبعَد، فسينسب الإطاريون الفضل إلى أنفسهم، فهم من أتى بها، وأن فشلت فسيكون من السهل غسل أيديهم منها كما فعلوا مع حكومة عبد المهدي سابقاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي