مظاهرة في باكستان ضد الاساءة الهندية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام  (Arif Ali/AFP)
تابعنا

ولكن، ورغم موجة الغضب الهادر الذي عمّ الشعوب العربية والإسلامية غيرة على دينها ومقدساتها ودفاعاً عن مقام نبيها الكريم، ورغم حالات الإدانة والاستنكار التي عبّرَ عنها بعض المواقف الرسمية، فإن كل ذلك لم يرقَ إلى الحدّ الذي يضطرّ حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى تقديم اعتذار رسمي عن التصريحات المسيئة.

أمام هذا الحالة، لا بد من فهم الواقع الهندي المعاصر بشكل عميق يمكّن المسلمين على المستويين الشعبي والرسمي من تنويع خياراتهم للرد على هذه الإساءات وإلجام أصحابها، في حال توفرت الإرادة لفعل ذلك.

حلقة من سلسلة

من المسلَّم به القول إن تصريحات المتحدثة باسم الحزب الحاكم نوبور شارما، وعدد من المسؤولين في الحزب المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لم تأتِ منبتَّة أو منقطعة، إنما هي حلقة في سلسلة طويلة ممتدة، تبلورت بشكل واضح مع صعود حزب الشعب المتطرف منذ ثمانينيات القرن الماضي، ثم بعد وصوله إلى الحكم برئاسة ناريندرا مودي في مايو/أيار 2014.

وكما قلنا في مقالات سابقة، فإن هذه الحكومة انتهجت استراتيجية وبرنامجاً واضحاً لاستهداف المسلمين، وظهر ذلك جلياً واضحاً في عدة مظاهر، منها إلغاء الحكم الذاتي في كشمير، وحسم قضية المسجد البابري لصالح الهندوس، وتطبيق قانون الجنسية الذي يهدف إلى حرمان ملايين المسلمين من جنسيتهم.

واشتدت الحملة على المسلمين خلال العامين الماضيين، واستُهدفت مساجدهم ورموزهم الدينية، وصدرت دعوات صريحة من قادة الهندوس تؤيد اضطهادهم ونفيهم وفي كثير من الحالات قتلهم أو إعادتهم إلى الحظيرة الهندوسية.

وإزاء هذا، لا بد من النظر إلى المشهد الشعبي والسياسي وحتى الاجتماعي في الهند بصورة أكثر واقعية وقرباً، ولا بد من فهم عدد من المعطيات على الساحة الهندية لاستجلاء الصورة.

حقد دفين

أول هذه المعطيات أننا أمام حكومة متطرفة تملك غالبية ساحقة في البرلمان المركزي وفي البرلمانات المحلية على مستوى الولايات، تمكّنها من تعديل القوانين بما يخدم برامجها الهادفة إلى "نقاء العرق الهندوسي، بحيث تكون الهند خالصة للهندوس".

ويحظى الحزب الذي يقود هذه الحكومة بشعبية مطّردة، في مقابل تراجع كبير لأسهم باقي الأحزاب على الساحة وفي مقدمتها حزب المؤتمر الهندي.

يُعرَف رئيس هذه الحكومة مودي بعدائه الدفين للمسلمين منذ أن كان رئيس وزراء ولاية غوجارات، وهو الذي أصدر أوامره إلى الشرطة بعدم التعرُّض للهندوس خلال المذابح التي تَعرَّض لها المسلمون في الولاية في فبراير/شباط 2002، ووُصف بعدها بـ"إمبراطور قلوب الهندوس".

ومن المفيد القول إن هذه الحكومة لا تسعى من خلال هذه السياسة لتحقيق أهداف انتخابية، بل على العكس من ذلك تماماً فقاعدتها الشعبية كبيرة جدّاً، وقد حصلت على غالبية ساحقة بسبب أفكارها المتطرفة مكّنَتها من تنفيذ برامجها.

ويمكن فهم هذا السياق من خلال المعطى الثاني، المتمثل في الدعم منقطع النظير الذي تتلقاه هذه الحكومة من قبل حشود هائلة من الغوغاء يغذّيها حقد دفين يتولّى التحشيد له رجال دين متعصبون في مئات الآلاف من المعابد المنتشرة في طول البلاد وعرضها.

يتمتع هؤلاء الغلاة المتطرفون بكامل الحرية لفعل ما يريدون، فهم محميون في ظلّ نظام طبقي مُوغِل في القدم والرسوخ يحتلون فيه الصدارة، ويتقدمون فيه على طبقة الساسة والحكام ورجال الأعمال والتجار.

نحن إذاً أمام حرية غير منضبطة بقوانين دستورية ولا بمنظومة أخلاقية، ولا حتى بمصالح وعلاقات سياسية، فهي حالة من الاستغناء عن الجميع وشعور هائل بالعظمة، مع سيطرة شبه مطلقة على مكامن القوة في البلاد.

كل هذا يأتي في مواجهة أقلية ضعيفة، رغم تعدادها الذي يتجاوز 200 مليون إنسان فإنها لا تملك من أمرها شيئاً، يزيد سوءَ أوضاعها حالةُ من الضعف الرسمي العربي والإسلامي وسط موج دولي وعالمي متلاطم من دعوات الكراهية والإسلاموفوبيا.

نقطة مهمة أخرى تأتي من بعيد في هذا السياق، هي أن اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، أثّر سلباً في علاقة الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة مع الهند، مما جعل نيودلهي تتحرر قليلاً من الضغوط الغربية المتعلقة في مجال الحريات وحقوق الأقليات، وهو ما ساهم في إطلاق يد غلاة الهندوس للتنكيل بالمسلمين.

هل من أمل؟

بعد هذا السرد الذي رسم صورة سوداوية مظلمة لواقع المسلمين في تلك البلاد، جاءت التصريحات المسيئة لتفتح صفحة جديدة للهند في علاقاتها، ليس مع مسلميها هذه المرة فحسب، بل ومع محيطها العربي والإسلامي، الذي ندّد كثير من دوله بالتصريحات المسيئة للنبي الكريم، وفي مقدّمتها دول الخليج جميعاً، ودول منظمة التعاون الإسلامي.

ترتبط نيودلهي بشكل وثيق بهذا المحيط من خلال علاقات دبلوماسية واقتصادية مهمة جدّاً لها، مما اضطرها إلى مراجعة حساباتها، وإن لم يصل هذا التراجع إلى تقديم اعتذار رسمي.

ووفق بيانات رسمية فإن حجم التبادل التجاري بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي وحدها بلغ أكثر من 108 مليارات دولار خلال عام 2018، مع نسب زيادة متوقعة توصله إلى نحو 115 ملياراً خلال العام 2022.

وتعتمد الهند على هذه المنطقة إلى حد كبير لتوفير حاجاتها من النفط والغاز، إلى جانب وجود نحو 7.5 ملايين هندي للعمل في هذه الدول، يوفّرون للهند عملة صعبة تُقدَّر بـ40 مليار دولار في العام.

أزمة متصاعدة

وقد تكون هذه الوقائع التي دفعت حكومة الهند إلى اتخاذ عدة إجراءات بحق بعض المسيئين، لكنها دون طموح الشعوب الإسلامية، إذ تجاهلت السلطات الرسمية في نيودلهي الطلبات بالاعتذار الرسمي، رغم أنها أمام قضية مقدَّسة حساسة تمسّ عقيدة المسلمين ودينهم في كل مكان.

وقالت الخارجية الهندية إن التغريدات والتصريحات المسيئة "صدرت عن أفراد معينين ولا تعكس بأي حال وجهة نظر الحكومة"، وهو ما اعتبره بعض المحللين "نصف تراجع"، لكنه لن يغيّر السلوك العامّ للحزب الحاكم المتطرف.

قد يسهم هذا التراجع المحدود في تنفيس حالة الاحتقان، خصوصاً في الداخل الهندي، وقد تكون الحكومة نجحت جزئياً في نزع فتيل أزمة متصاعدة، لكن ممارساتها المتواصلة ضد المسلمين قد تجرها إلى ساحات مواجهة هي في غنىً عنها.

كما شكّل الدعم الشعبي الإسلامي المتواصل فرصة لتوفير مظلة للمسلمين الهنود لبسط شكواهم ونشر مظالمهم بشكل أوسع وأكبر، خصوصاً في ظلّ حملات دعم وتضامن دولي كبير عبر شبكات التواصل الاجتماعي شارك فيها نشطاء ومشاهير وفاعلون على جميع المستويات.

فقد أسهمت هذه الحملات في تشجيع بعض المواطنين الهنود فى بومباي ودلهي وحيدر آباد وغيرها من المدن على تسجيل قضايا لدى الشرطة ضد أصحاب التصريحات بتهمة إساءتهم لمشاعر المسلمين الدينية.

كما خرج بعض المظاهرات الاحتجاجية المحدودة في بعض المدن الهندية، ورغم أن هذه الخطوات -وفق كثير من المراقبين- لن يكون له صدى عملي، فإنها تُعَدّ تحركاً مفيداً لقضية المسلمين في الهند، خصوصاً إذا رافقها حراك منظم ودعم عربي وإسلامي رسمي.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً