لافتة يرفعها أحد المتظاهرين المحتجين على التصريحات الهندية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام (المصدر: تويتر) (Others)
تابعنا

حاولت حكومة حزب بهاراتيا جاناتا (بي جي بي) في الهند أن تمسك العصا من الوسط. فتحت وقع الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها، خصوصاً من دول الخليج العربي التي تتمتع نيودلهي بعلاقات اقتصادية قوية معها، أعلن الحزب أن التصريحات المسيئة بحق النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- لا تمثل موقفاً رسمياً، واتخذ إجراءات بحق نبور شارما المتحدة باسم الحزب وعلق عضويتها وطرد المسؤولة الإعلامية للحزب بدلهي نافين جيندال، وهما المسؤولتان عن تلك التصريحات المسيئة التي أججت غضباً عارماً في العالم الإسلامي.

كان لافتاً أن يكون هذا التحرك من قبل الحزب، وهو تحرك غير كافٍ على الإطلاق، بعد خوفه تدهور علاقته مع بعض الدول ذات التأثير الكبير. فدول الخليج تعتبر المصدر الأساسي للنفط والغاز الهندي، هذا فضلاً عن ما يقرب من 9 ملايين هندي يعملون في دول الخليج ويشكلون مصدراً مهماً للعملة الصعبة في الاقتصاد الهندي.

إذن المعادلة التي رضخت لها حكومة مودي هي معادلة الأرقام والاقتصاد، وما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية الأديان فهو خارج حساباتها. فلا معنى أن يجري طرد هاتين المسؤولتين فقط بسبب هذه الإساءة إلى مقام النبي -عليه الصلاة والسلام- بلا إصلاحات جوهرية تمس سياسة الحزب في التعاطي مع مسلمي الهند البالغ عددهم ما يقرب من 200 مليون نسمة. فالتراجع الهندي المحدود جاء لحسابات خارجية بحتة لا لأي ضغط داخلي يتعلق بحقوق هؤلاء المسلمين الذين يتعرضون لأشكال التعنيف والتضييق الديني كافة.

إن الإساءة إلى مقام النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- فعل شنيع ويجب أن يكون الرد عليه رسمياً وشعبياً بما يتلاءم مع الحدث. ولكن دعونا ألا نغفل أن هذه الإساءة هي الوجه الثاني للقصة. أما الوجه الأول فهو سياسة حزب بهاراتيا جاناتا المتطرف تجاه المسلمين في الهند، وهي سياسة ممنهجة لا وليدة ردات الفعل. وقد شمل انتهاك حقوق الإنسان المسلم في الهند صور الاعتداء كافة من حرمانهم الجنسية والصلاة في دور العبادة إلى التنكيل بهم قتلاً وحرقاً. وهنا يبرز تساؤل حول موقف دول العالم الحر من حقوق الإنسان "المسلم" المنتهكة على مدار الساعة في الهند.

في البداية يبدو أن الهند لا تلقي بالاً للاعتراضات الغربية (وهي اعتراضات متواضعة) لسجل حقوق الإنسان لديها. فقد ردت الحكومة الهندية بتحدٍّ عندما اعترض وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن على تراجع الحرية الدينية في الهند في وقت مبكر من الشهر الجاري. وقد عبر الوزير الأمريكي في تصريحه حينها عن حسرته لزيادة "الهجمات على الناس وأماكن العبادة". لقد اعتبرت الهند أن هذا الكلام لم يكن مدروساً من الوزير واقترحت بالتالي على أمريكا أن "تلتفت إلى بيتها وتعيد ترتيبه". أعتقد أن كلام الوزير كان مدروساً، فقد تحدث عن "الناس" بشكل عام ولم يخصص المسلمين، وتحدث عن "دور العبادة" وليس عن الجوامع. يبدو أن الولايات المتحدة لا تريد إغضاب نيودلهي على أي حال، وإنما ما تفعله يأتي على شاكلة رفع العتب.

وهذا الموقف الأمريكي مفهوم جداً، ففي ظل اشتعال الحرب الروسية على أوكرانيا تحاول واشنطن عدم الضغط على الهند كثيراً خوفاً من انزياح أكبر للهند باتجاه روسيا. لقد أبدت الهند موقفاً مخالفاً لحلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، فلم تدن الهند الحرب وأبقت على خطوط تجارتها مع روسيا مفتوحة بل زادت. في البداية حاولت إدارة بايدن الضغط على نيودلهي لتعديل موقفها. ولكن بحلول منتصف أبريل/نيسان غيرت إدارة بايدن موقفها بشكل كبير فقد التقى بايدن مودي خلال انطلاق ما يسمى حوار 2+2 في واشنطن. بعد الاجتماع كان من الواضح أن بايدن وافق على موقف مودي. وأشار البيان الأمريكي إلى أن الزعيمين سيواصلان "مشاوراتهما الوثيقة" بشأن روسيا، من دون أي مؤشر على أن واشنطن مستعدة لاتخاذ أي إجراء ضد نيودلهي. بالإضافة إلى ذلك لم يكن على الهند إدانة روسيا أو تقديم أي تنازلات أخرى مثل كبح استيرادها للنفط الروسي الرخيص أو إنهائه.

في حسابات الدول العظمى يمكن بشكل لافت أن تضيع حقوق 200 مليون إنسان (عدد المسلمين في الهند). فالولايات المتحدة تدرك محورية الدور الهندي في أي مواجهة قادمة مع الصين. إن سياسة واشنطن في منطقة جنوب شرق آسيا يقوم عمادها على علاقتها مع الهند، ولذلك كان الرئيس الأمريكي جو بايدن صريحا الشهر الماضي أثناء زيارته لطوكيو عندما قال: "أنا ملتزم جعل الشراكة بين الولايات المتحدة والهند من بين أقرب شراكة لدينا على وجه الأرض". وفي البيان المشترك بين الزعيمين كان بايدن وحده هو الذي أدان روسيا في حين امتنع مودي عن توجيه أي انتقاد أو تحفظ على روسيا. لقد أكد وزير الخارجية الأمريكي أن "الهند يجب أن تتخذ قراراتها الخاصة حول كيفية التعامل مع هذا التحدي (الحرب الروسية على أوكرانيا). وهو ما يعني أن الولايات المتحدة لن تمارس عليها ضغوطاً بهذا الشأن لاحقاً.

يقبع في خلفية الموقف الأمريكي هذا من الهند خشية واشنطن حدوث أي نوع من التقارب ما بين العملاقين الآسيويين. وهو تقارب وإن كان ليس من السهل حدوثه إلا أنه غير مستحيل. ففي السياسة لا شيء مستحيل. ففي مارس/آذار الماضي فاجأ وزير الخارجية الصيني الجميع بزيارة إلى الهند وهي أول زيارة لمسؤول صيني رفيع المستوى إلى الهند منذ 2019. وقد قال في معرض زيارته إن "الدولتين إذا تعاونتا فإن العالم بأسره سوف يسمع". هذا فضلاً عن التفهم الصيني للموقف الهندي من الحرب الروسية على أوكرانيا إذ اعتبرت بكين أن شراء الهند للنفط الروسي بأسعار رخيصة يعتبر حقاً لها ولا يجوز للغرب أن يعترض.

بكلمة أخرى تحسن حكومة مودي المتطرفة استثمار لعبة التنافس بين الدول العظمى لصالحها. ولذلك فهي لا تشعر بالضغط لتغيير موقفها من مواطنيها المسلمين سواء داخلياً من خلال الشعبية الكبيرة التي تحظى بها من قبل الغالبية الهندوسية في البلاد، أو خارجياً من قبل الغرب لحاجة الأخير إليها من أجل احتواء الصعود الصيني. بالنتيجة فإن الهند سوف تستمر في سياستها العنصرية تجاه مواطنيها المسلمين، وهي سياسة سوف تتفاقم في السنوات القادمة خصوصاً في ظل تشكل عقيدة عنصرية قائمة على نقاء العرق الهندوسي وأن الهند للهندوس فقط، وهو ما يضع مسلمي الهند (ربما) أمام حملات من التطهير العرقي.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً