المستشار الألماني أولاف شولتز وهو يتفقد طليعة قواته التابعة لحلف الناتو والمتمركزة في ليتوانيا   (DPA)
تابعنا

تبدو ألمانيا في الجوقة الأوروبية والغربية مثل عازف يتثاقل عن الأداء وقد يُشَكّ في إخلاصه للجهد الجماعي الصاخب من حوله، لكنه يتظاهر بالانهماك في العزف على المنصّة إن طاردته أنظار الحانقين. قد يتسلّل هذا الانطباع إلى مراقبي السلوك الألماني إزاء الأزمة الأوكرانية بعد انقضاء مئة يوم على اندلاع حرب طاحنة مرشَّحة للاستدامة.

تلكّأت برلين، مثلاً، في التجاوب مع المطالب الأوكرانية والأمريكية القاضية بتزويد كييف بالسلاح الثقيل، فتخلّفت عن ركب دول أوروبية أعضاء في "الناتو" قدّمت شيئاً منه لشريكة الحلف التي تواجه الغزو الروسي.

تسعى الحكومة الألمانية لتلافي الحرج عبر خيارات غير مباشرة، كأن تقوم سلوفينيا أو بولندا بتزويد القوات الأوكرانية بدبّابات تعود إلى الحقبة السوفييتية، على أن تقوم برلين بتعويض ليوبليانا أو وارسو عن ذلك بمدرّعات ألمانية الصنع. لكنّ عمليات المقاصة العسكرية هذه تتعثّر في الواقع، فهي تسير بخطىً متثاقلة قد تمتدّ بها حتى نهاية الشتاء المقبل. يكشف هذا السلوك عن المقاربة الألمانية الحذرة بشأن إسناد المجهود الحربي الأوكراني، فلدى برلين حسابات معقَّدة تفرض عليها القيام بخطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء.

لم تقدِّم ألمانيا في البدء سوى تجهيزات دفاعية محدودة للقوات الأوكرانية، تشمل خوذات ومناظير ووسائل حماية، ثم اضطُرّت تحت الضغط إلى إمدادها بصواريخ وقاذفات وأسلحة خفيفة وذخائر لا أكثر، وهي تناور حاليّاً مع الإلحاح عليها بتزويد كييف بالسلاح الثقيل.

لا ترغب ألمانيا بأن تتحدّى روسيا أو أن تبدو طرفاً في الحرب، فتجاوبت مع العقوبات على روسيا ضمن نسق أوروبي وغربي عامّ. شاركت برلين في ستّ حزم من العقوبات الأوروبية على موسكو حتى مطلع يونيو/حزيران، اقتضت كلّ حزمة منها مشاورات مكثَّفة في أروقة الاتحاد وتجاذبات ألمانية داخلية أيضاً بشأن عواقبها المرتدّة على الجمهورية الاتحادية ودول أوروبا.

تتحاشى برلين المخاطرة بإمدادات الطاقة من روسيا رغم تجميدها مشروع خط الغاز الشمالي الثاني بُعيْد اجتياح أوكرانيا. تواجه الحكومة الألمانية صعوبات في تأمين بدائل مستقرّة لإمدادات الطاقة الروسية رغم تحرّكاتها الخارجية المكثفة في هذا الشأن، كما يتضح في مفاوضات عالقة مع الدوحة بشأن عقود الغاز المُسال.

وإذ تُعَدّ روسيا تهديداً لأوروبا وتحدِّياً استراتيجيّاً لها، فإنها كانت بالنسبة إلى ألمانيا شريكاً، وتبقى شريكاً محتمَلاً في المستقبل، على نحو يفرض على برلين إبقاء خطوط الرجعة مفتوحة.

ليس مستغرَباً أن سعت برلين، بمعية باريس، إلى إطلاق حوار استراتيجي أوروبي مع روسيا قبل شهور من اندلاع الأزمة الأوكرانية، لكنّ المسعى تعثّر بعد أن عرقلته واشنطن من وراء ستار عبر استنفار عواصم أوروبية شرقية مقرَّبة منها لمنع إقراره في قمّة بروكسل الأوروبية التي انعقدت في يونيو 2021.

ذلك أنّ إدارة بايدن أظهرت منذ البدء عزمها على حشد الأوروبيين في الخندق الأمريكي في مواجهة التمدّد الروسي والصعود الصيني، فاستدعت مقولات تقليدية من زمن الحرب الباردة عن اصطفاف أمم تؤمن بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. ثمّ هوى اجتياح أوكرانيا برهان ألمانيا وشركائها الأوروبيين على استئناس موسكو وتطويعها وإدماجها في شراكات متبادلة. دفعت الحرب برلين إلى مواجهة استحقاقات حَرِجة تفرض عليها المزاوجة بين الإقدام والإحجام في التجاوب مع ناظم الإيقاع الأمريكي بشأن الأزمة الأوكرانية مع مراعاة أولوياتها ومصالحها وهواجسها.

لا ينبغي للموقف الألماني الحَذِر أن يطمس تحوّلات نوعية فرضتها الحرب الأوكرانية على ألمانيا، مثل قرارها التاريخي القاضي بتخصيص مئة مليار يورو لتطوير جيشها، وقرار إرسال إمدادات عسكرية إلى ميدان الحرب رغم أنها بدت مساهمة خجولة. ما كان لهذا أن يحدث لولا صدمة الاجتياح الروسي التي أسقطت رهانات برلين المتعلِّقة بالأمن الإقليمي وأعادت أوروبا إلى زمن الحروب الطاحنة. كشفت هذه التجربة مجدَّداً ارتهان ألمانيا للمظلة الدفاعية الأمريكية من جانب واعتماديّتها المفرطة على إمدادات الطاقة الروسية رغم حُمَّى البحث عن بدائل.

لدى ألمانيا حساباتها الداخلية الشائكة، فالائتلاف الحكومي الثلاثي المشكَّل من الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر والليبراليين بدا أحياناً مفتقراً إلى الانسجام في لغة الخطاب والمواقف بشأن الأزمة الأوكرانية واستحقاقاتها، على نحو أظهر برلين من الخارج في هيئة مُتردِّدة ومُماطِلة. تخشى حكومة المستشار أولاف شولتز مزيداً من الأعباء الاقتصادية التي قد تترتّب على كيفية تعاملها مع الموقف، علاوة على مؤشِّرات التضخّم المتصاعدة بعد شهور الحرب التي أعقبت سنتين من جائحة كورونا.

لا تكفّ القيادة الروسية من جانبها عن تحذير ألمانيا من إرسال أسلحة ثقيلة إلى الجانب الأوكراني، كما جرى مثلاً خلال مكالمة هاتفية مطوّلة جمعت بوتين وشولتز وماكرون يوم 28 مايو/أيار، لوّح خلالها الرئيس الروسي بعواقب خطيرة في حال الإقدام على ذلك. تسمع القيادة الألمانية في المقابل انتقادات متوالية من كييف وعواصم أوروبية شرقية تشكِّك في جدِّيّتها في مواجهة التحدِّي الروسي، وتذكِّرها بما أفضى إليه نهجها السابق مع روسيا الذي راهن على تغليب المصالح الاقتصادية على الاعتبارات الاستراتيجية. تخشى هذه العواصم، كما تبيّن مثلاً خلال زيارة وزير الخارجية البولندي زبيغنيو راو إلى برلين يوم 24 مايو، من سعي ألمانيا إلى حلّ تفاوضي للأزمة بدل الرهان على المواجهة العسكرية المفتوحة، فالمفاوضات يُنتظر منها أن تقضي إلى التسليم بالسيطرة الروسية على أراضٍ أوكرانية والرضوخ لبعض مطالب موسكو، فيما تدفع الولايات المتحدة والقيادة الأطلسية باتجاه استنزاف روسيا في الميدان الأوكراني إلى أبعد مدى ومحاولة تحجيمها اقتصادياً وتقنياً وعزلها دولياً وربما إخراجها من التاريخ.

تتزايد حظوظ المسعى التفاوضي كلّما طال أمد الحرب وتنامت فرص التقدّم النسبي الذي تحرزه القوات الروسية في الميدان.

ثمّ إنّ أوراق الضغط التي تلعب بها موسكو بعد مئة يوم من الحرب الطاحنة تجبر الأطراف الأوروبية والدولية على التفاهم معها، كما تَجلَّى في صادرات الحبوب الأوكرانية العالقة التي حرّكت اتصالات دبلوماسية مع الكرملين. وبينما تحاول روسيا إحباط مفعول العقوبات الغربية عليها أو تخفيف وطأتها، فإنّ العواصم الأوروبية والغربية تستشعر ضغوط الحرب الأوكرانية المتزايدة كل أسبوع على جيوب مواطنيها والأثر الارتدادي للعقوبات، مع تفاقم معدّلات التضخّم التي بلغت مستوى لم تشهد ألمانيا له مثيلاً منذ سنة 1952، ولا يزال الأسوأ قادماً حسب بعض التحذيرات. تُدرِك برلين هذه المعطيات، فتُسايِر الحملة الأطلسية المرتدّة على موسكو دون أن تنخرط فيها بجدية.

تسير ألمانيا على حبل مشدود بين مقتضيات المرحلة الحربية والالتزامات الأطلسية من جانب، ومراعاة مصالحها الاستراتيجية وأولوياتها الاقتصادية من جانب آخر، لكنها تواجه منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا معضلة التخلّف عن القيادة الأوروبية التي تبوّأتها طويلاً. تراجعت برلين إلى المقاعد الخلفية كي لا تقود التصعيد مع روسيا في زمن الحرب والعقوبات. ترتّب على هذا تقدُّم نسبي في الدور الفرنسي من جانب، وعلوّ نبرة بولندا في هذه المرحلة بعد أن واجهت الدولة المقرّبة من الولايات المتحدة انتقادات وعقوبات أوروبية محتمَلة حتى خريف سنة 2021 بسبب تحدِّي قيادتها أنظمة الاتحاد.

لا تبدو ألمانيا، بعد أشواط الحرب الأولى في أوكرانيا، متحمِّسة لمجاراة الأولويات الأمريكية في أوروبا، ذلك أنّ واشنطن، المسكونة بهاجس الحفاظ على ريادتها القطبية في عالم متغيّر، لا تريد لحرب الاستنزاف الدائرة عند بوابة القارّة الشرقية أن تضع أوزارها قبل تحجيم روسيا، رغم عواقبها الإنسانية والاقتصادية المتفاقمة، فيما يدرك بعضهم في برلين وعواصم أخرى أنّ سدّ نافذة الحلّ السياسي يعني مزيداً من استنزاف روسيا وأوكرانيا في المقام الأول، وإنهاك أوروبا والعالم في ملفات الطاقة والاقتصاد والغذاء تالياً، مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب قد تفوق الاحتمال.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً