في الصورة، يظهر نموذج مطبوع ثلاثي الأبعاد لرجل يعمل على أجهزة الكمبيوتر أمام لوحة مكتوب عليها "هاكر "   (Dado Ruvic/Reuters)
تابعنا

وكلمة "شاملة" في السؤال مقصودة، فهي تعني أن عمليات من قبيل الهجمات السيبرانية قد شوهدت وجرى التصريح عنها في أثناء الحرب، ولكن لم تكُن في مستوى المتوقع من روسيا، خصوصاً أنها كانت قد استثمرت الكثير في أدوات الحرب المعلوماتية وعلى رأسها الهجمات السيبرانية.

هذا الأمر فتح الباب واسعاً أمام تساؤل أوسع يتعلّق بجدوى الحرب الإلكترونية في ظلّ الحروب الفعلية التي تجري باستخدام الأسلحة التقليدية. يوجد من يرى أن غياب الحرب الإلكترونية الروسية الشاملة إنما ينبع من أسس موضوعية تتعلق بعدم كفاية هذا النوع من الحروب في تحقيق الغايات السياسية التي رسمها القادة الروس.

انطلاقاً من النقطة الأخيرة فالأمر صحيح، فالحروب الإلكترونية سواء أكانت شاملة أم كانت محدودة فهي من ضمن الهجمات التكتيكية التي يهدف منها المهاجم إلى تحسين أداء عملياته على الأرض من خلال إرباك الخصم أو حرمانه من أدوات الردّ. يجب التأكيد هنا أن حرباً إلكترونية شاملة لم تقع من قبل. وهناك العديد من الخبراء يرون أن هذا النوع من الحروب لن يقع، على الأقل في المديين القريب والمتوسط، لأسباب عديدة أهمها هو الردع السيبراني المتبادل والذي بات يتشكل بين القوى الفاعلة في هذا المجال. فحرب إلكترونية شاملة تعني شل البنية التحتية الحيوية؛ العسكرية والمدنية على حد سواء. وهذا يضاهي من حيث التأثير والعواقب الحرب النووية. لذلك تحاول كل دولة تجنب هذا المسار حتى لا تكون ضحية حسابات خاطئة تكلفها أكثر مما تحتمل بكثير.

هذا يقودنا إلى أن الحروب الإلكترونية هي حروب تكتيكية. لذلك لا يمكن أن تحقق نتائجها المرجوة منها إلا في حال إسنادها إلى تكتيكات حربية أخرى، سواء كانت من قبيل حرب نفسية تجري عبر الإنترنت وحروب الدعاية أو الحروب التي تجري بالأسلحة التقليدية. ومن هنا يكون السلاح السيبرايني هو سلاح إسناد وليس سلاح حسم المعارك كما هو الحال في الجيوش النظامية التي تعتمد على المكون البشري. وهذا التوجه لا ينقص من قيمة السلاح السيبراني أبداً طالما وُضع في مكانه الصحيح، فسلاح الطيران، وهو السلاح الذي غيّر طبيعة الحرب منذ دخوله الخدمة في الحرب العالمية الثانية، وعلى أهميته لا يعتبر سلاحاً لحسم المعارك. بطبيعة الحال "تعبير حسم المعارك" يحتمل الكثير من المعاني، ولكننا ما دُمنا نتحدث عن الحالة الروسية-الأوكرانية، فهنا أعني بحسم المعارك تحقيقَ الاستيلاء على الأرض، وهذا هدف لا يمكن الوصول إليه لا بالسلاح السيبراني وليس بسلاح الجو أو المدفعية. ومن هنا لم يكن مستغرباً أن تزج روسيا بالعديد من كتائبها "البشرية" والمرتزقة على حد سواء لتحقيق هدفها الجوهري من الحرب وهو ضم جزء من الأراضي الأوكرانية إليها أو على الأقل فصلها عن أوكرانيا وإعلانها أراضي مستقلة خاضعة للنفوذ الروسي.

إذن ومن خلال هذا المحدد المهم وهو استخدام السلاح السيبراني لتنفيذ هجمات تكتيكية، فإن روسيا تكون قد استخدمت الهجمات السيبرانية على نطاق واسع وفعال (وإن لم يكن شاملاً للأسباب التي ذكرتها آنفاً). ففي غداة بدء العمليات العسكرية، شنت الوحدات الروسية السيبرانية العديد من الهجمات طالت البنية التحتية للاتصالات المدنية الأوكرانية ومراكز القيادة والسيطرة العسكرية بطريقة فاقت معدلات الهجوم التي سجلت عالمياً على مدار عام كامل.

وحسب العديد من التقارير فإن هذه الهجمات قد أثرت على العديد من الوكالات الحكومية والمؤسسات العسكرية، وخدمات الطوارئ المدنية، ومجموعة من قطاعات البنية التحتية الحيوية الأخرى مثل القواعد الصناعية الدفاعية، وخدمات تكنولوجيا المعلومات، وشركات الطاقة ذات الصلة المباشرة بالقدرة العسكرية لأوكرانيا. هذا الأمر دفع بعض الجهات الخارجية مثل القوات السيبرانية الأمريكية إلى التدخل لمنع تفاقم الوضع بحيث تحافظ بعض البنى التحتية الأوكرانية على عملها المعتاد كسكك الحديد ومترو الأنفاق. هذا فضلاً عن شركة إيلون ماسك الذي تدخل لتوفير خدمة الإنترنت لأوكرانيا عبر تكنولوجيا الإنترنت الفضائي المسماة Starlink.

الأمر الذي يجب أن نبقيه في البال هنا أن الهجمات السيبرانية ليس شرطاً لها أن ترتبط بمسار ومجريات الحرب على الأرض، للحروب الإلكترونية أنساقها الخاصة، ومن أبرز هذه الأنساق أنها تجري في وقتي السلم والحرب. بكل تأكيد بدأت الهجمات السيبرانية على أوكرانيا قبل بداية الهجمات العسكرية الحالية، وذلك من خلال زرع موطن قدم إلكتروني في الشبكات الأوكرانية، فمثلها مثل الحروب التقليدية، تحتاج الحروب الإلكترونية إلى الاستعداد. وتكاد تكون هذه الحروب عديمة الفائدة إن لم يجرِ الكشف عن الثغرات في شبكات العدو واستثمار هذه الثغرات في زرع فيروسات إلكترونية ضارة للسيطرة عليها أو تعطيلها.

النسق الثاني المهم هنا والمرتبط بما نحن بصدده هو خفاء الحروب الإلكترونية. بمعنى أن فاعلية وإيلام الهجمات السيبرانية يكمن في الحفاظ على خفائها وسريتها. في الوقت الذي يجري فيه الكشف عن هذه الهجمات، تذوب وتتلاشى فاعليتها وقدرتها على التأثير. لذلك، فنحن نعلم فعلاً عن جزء من الهجمات السيبرانية الروسية على أوكرانيا (وبالمناسبة الهجمات المضادة أيضاً والتي شنتها أوكرانيا على روسيا) ولكننا لا نعلم حجم هذه العمليات على وجه الدقة وإلى أي مدى قد وصلت. بكلمة أخرى، إننا نعلم ربما فقط رأس قمة جبل الجليد.

لقد جرى استخدام الهجمات السيبرانية على نطاق واسع من جانب روسيا. ولكنها كانت ضمن الهجمات التكتيكية التي تهدف إلى دعم وإسناد المجهود الحربي على الأرض. من الممكن أن تُحدِث نوعاً من التقييمات الجديدة بحيث تزيد حدة هذه الهجمات لاحقاً. لقد علت أصوات غربية مؤخراً محذرة من أن هذه الهجمات لن تقتصر على الأهداف الأوكرانية، ولكن قد تطال أهدافاً أمريكية وأخرى أوروبية. فالأمر كله خاضع إلى مسار الحرب وتطورها على الأرض. لقد رأينا كيف أن الكرملين قد تنحى جانباً عن احتلال كييف على سبيل المثال وركز عملياته على الجانب الشرقي من أوكرانيا. إنها محاولة لإعادة ضبط الأهداف، ومن هنا قد تحدث عمليات ضبط جديدة للتكتيكات المستخدمة ومنها الهجمات السيبرانية.

أخيراً.. يجب تأكيد أن هجمات سيبرانية محدودة وتكتيكية وتحت السيطرة، إن كانت موجودة بالفعل، فهو أمر يدعو إلى التفاؤل. إن آخر شيء نريده اليوم في هذا العالم المليء بالمشاكل أن تتحول الهجمات السيبرانية إلى حروب إلكترونية شاملة خارجة عن السيطرة تهدد جميع الشبكات والبنى الحيوية المدنية التي يعتمد عليها مليارات البشر. إن أهم إشكاليات الهجمات الإلكترونية عدم أو صعوبة السيطرة عليها، لا يمكن لأحد السيطرة على فيروس ضار داخل ملايين الشبكات المتداخلة حول العالم والتي تربط مليارات من الأجهزة الحاسوبية.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً