حركة فتح وأزماتها في ظلّ استحقاقات المرحلة
أربع أزمات تعانيها فتح يركز عليها هذا المقال، تنعكس على قدرتها على التعامل مع المرحلة الخطيرة التي تمر بها قضية فلسطين، وعلى التعامل مع الانتخابات واستحقاقات ترتيب البيت الفلسطيني.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس حركة فتح (Others)

أولاها الأزمة الداخلية، وثانيتها أزمة القيادة، وثالثتها أزمة المسار، ورابعتها أزمة التفكيك الناعم و"الدولنة".

فقد أعطى قرار فصل قيادة حركة فتح لناصر القدوة عضو لجنتها المركزية منذ2009مؤشراً جديداً على الأزمة الداخلية التي تعانيها الحركة. وقد جاء قرار فصله في11مارس/آذار2021بعد إصراره على تشكيل قائمة منفصلة عن القائمة الرسمية لفتح، باسم "الملتقى الوطني الديمقراطي"، للمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية. وكان القدوة أكد أنه سيظل "فتحاوياً حتى العظم" وأن قرار فصله كان "تعسفياً"، بينما رأت قيادة فتح في سلوكه تمرداً عليها وتشجيعاً لتشرذمها وإضعافاً لها في اللحظة الحرجة.

ويأتي فصل القدوة بعد فصل قيادة فتح لعضو لجنتها المركزية محمد دحلان الطامح لخلافة عباس في11يونيو/حزيران2012، الذي لا يزال متمسكاً بفتحاويته ويمتلك قاعدة عريضة من المؤيدين في الوسط الفتحاوي وخصوصاً بقطاع غزة. وقد قرر من طرفه نزول الانتخابات ضمن قائمة أخرى منفصلة عن القائمة الرسمية للمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي.

أما مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لفتح والرمز الفتحاوي الكبير الذي يعاني الأسر في سجون العدو والحكم بخمسة مؤبدات، فقد أعلن عن توجهه إلى النزول في انتخابات الرئاسة الفلسطيني، بخلاف موقف قيادة فتح التي ترشح عباس للمنصب في الوقت الذي يحظى فيه البرغوثي بفرص أقوى، إذ تصب كل استطلاعات الرأي وطوال السنوات الماضية في صالحه حال ترشحه لانتخابات الرئاسة. كما لم يُخفِ القيادي الفتحاوي نبيل عمرو رغبته في تشكيل قائمة أخرى.

تعكس هذه الأوضاع ظاهرة قديمة متجددة في فتح التي عانت العديد من الانشقاقات والترهل في بناها التنظيمية عبر تاريخها. وكان من أبرزها انشقاق عدد من قيادات فتح بقيادة صبري البنا (أبو نضال) وتشكيل حركة فتح "المجلس الثوري" سنة1974، وانشقاق عدد آخر من قيادات فتح بقيادة أبو موسى ونمر صالح وتشكيل فتح "الانتفاضة"1983. وفي الاستحقاق الانتخابي الأول للسلطة الفلسطينية لانتخابات المجلس التشريعي سنة1996نزلت شخصيات فتحاوية بشكل مستقل ومنافسين للقائمة الفتحاوية الرسمية، وتمكن19منهم من الفوز بمقاعد في المجلس التشريعي، وانضموا في النهاية إلى كتلة فتح في المجلس بعد أن فرضوا أنفسهم عليها فرضاً.

وقد انعكست الخلفيات الأيديولوجية المختلفة لأعضاء فتح على حالة التماسك الداخلي فيها، كما لعبت الاستحقاقات والمنعطفات التاريخية دورها في تفجير الخلافات، خصوصاً أن العديد من المنعطفات كان يصحبها تضحيات هائلة وأثمان كبيرة من دماء أبنائها وأبناء الشعب الفلسطيني، كما كانت تؤدي إلى تنازلات سياسية مرفوضة من قطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني ومن داخل فتح نفسها. ولأن ثمة هامش حرية واسعٍ داخل فتح فقد أعطى ذلك مجالاً أكبر لعدد من القيادات لتكوين تيارات داخلها، أو لاستخدام سلطاتهم وصلاحياتهم في تحشيد الدعم لصالحهم.

وفي السنوات العشر الماضية تمكَّن رئيس فتح محمود عباس من تحقيق قدر عالٍ من الانضباط الداخلي والتماسك التنظيمي في حركة فتح، ومن علاج العديد من مظاهر الترهل. غير أن ذلك أدى إلى انفراده بالزعامة وأفقد فتح جزءاً من حيويتها القيادية وهو أداءٌ لم ينجح تماماً، عندما تعلق ذلك باستحقاق كبير كالانتخابات التشريعية كما يظهر هذه الأيام.

أزمة القيادة

وتواجه فتح أزمة ثانية هي أزمة وراثة محمود عباس الذي بلغ السادسة والثمانين من عمره (مواليد 1935)، والذي تمكن من التحكم بجميع السلطات والصلاحيات وإضعاف أي منافسين أو "ورثة" محتملين. وباتت مخاوف ألا يتمكن قائد فتح الجديد من ملء الفراغ واستيعاب "قبيلة" فتح بتشابكاتها وتداخلاتها. وتوجد أسماء مطروحة كمحمود العالول وجبريل الرجوب ومروان البرغوثي ممن لهم رصيد كبير داخل فتح، كما يلقى "التيار الأمني" في السلطة الفلسطينية بقيادة ماجد فرج ومعه حسين الشيخ دعماً من جهات عربية ودولية مع تفضيل إسرائيلي للتعامل معه، بينما يحاول دحلان وبدعم إماراتي أن يعيد تموضع نفسه ليكون المرشح الأقوى لخلافة عباس. وقد عكس تشكيل قيادات في فتح قوائم انتخابية خارج القائمة الرسمية جانباً من أزمة فتح القيادية. كما وصل الأمر إلى التهديد بكشف "حقائق" حول اغتيال ياسر عرفات، ليصبح الكشف عن قاتل عرفات أقرب إلى عملية ابتزاز سياسي منه إلى معرفة الحقيقة بالنسبة إلى قائد تاريخي كبير مثل عرفات.

أزمة المسار الاستراتيجي

وتبرز أزمة المسار الاستراتيجي كأزمة كبرى تواجه حركة فتح ليس فقط في خياراتها السياسية، وإنما أيضاً بصُلب هويتها ورؤيتها وأهدافها، بغض النظر عن الأدبيات النظرية المتداولة داخلها. فقد دخلت منذ اتفاقيات أوسلو 1993مرحلة لم يعد ينفع معها لعبة "توزيع الأدوار" التي تجيدها قياداتها وأخذت تتموضع بشكل لا لبس فيه بمسار التسوية السلمية، مع تحمّل أوزار التنازل عن معظم فلسطين التاريخية وإلغاء -أو تعطيل- الميثاق الوطني الفلسطيني وتقزيم منظمة التحرير لصالح تشكيل سلطة فلسطينية فشلت في التحول إلى دولة مستقلة بالضفة الغربية وغزة، بينما تمكن العدو من تحويلها مع الزمن إلى أداة وظيفية تخدم أغراض الاحتلال ومتطلباته الأمنية أكثر مما تخدم تطلعات الفلسطينيين.

وبالتالي قادت الشعب الفلسطيني من خلال المنظمة والسلطة إلى مسار مسدود لا يحمل فرص تحقيق الحد الأدنى من البرنامج الذي دخلت على أساسه مسار التسوية. وفي الوقت نفسه لا تزال قيادتها تصرّ على مسار التسوية مساراً وحيداً وترفض خيار المقاومة المسلحة والانتفاضة. وهو ما قد يجعل فتح عُرضةً لأن تتجاوزها المرحلة وتتجاوزها حركة التاريخ، إن لم تجرِ مراجعة حقيقية لمساراتها.

التفكيك الناعم

أما الأزمة الرابعة فهي أزمة "التفكيك الناعم" لفتح" أو "دولنة فتح" الذي تعرضت له الحركة طوال أكثر من 50 عاماً من قيادتها لمنظمة التحرير، غير أن حدّتها وتجلياتها الكبرى برزت بعد إنشاء السلطة الفلسطينية سنة 1994. إذ إن "مأسسة" الثورة واستيعابها في أطر "رسمية" مثّل تحدياً كبيراً لقوة ثائرة تكمن حيويتها وفاعليتها في قدرتها على السير عكس التيار وفرض الوقائع على الأرض، والخروج عن النسق العربي والدولي العام، الذي سعى لاستيعابها وامتصاص طاقتها في أطر بيروقراطية خدمية.

ولأن هذا المقال لا يتسع للحديث عما أصاب منظمة التحرير من ضعف وترهل وفساد، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن السلطة الفلسطينية استوعبت معظم قيادات فتح وكوادرها، وارتبطت معيشة نحو150ألفاً تضم عائلاتهم نحو مليون شخص بالسلطة ومنظوماتها الأمنية والإدارية المرتبطة بعجلة الاحتلال. ومع الزمن بعد أن كان لفتح أبطالها ومقاوموها الذين يصبغونها بصبغتهم الثورية أخذ يظهر جيل "أبناء دايتون" المرتبط بالتنسيق الأمني واستحقاقاته.

وأصبحت "المصلحة" ترتبط بحالة "الاستقرار" لا "الثورة"، والاكتفاء بدرجة "مقبولة" من المقاومة الشعبية التي يسهل على الاحتلال التعامل معها. ولم يعد الكثير من عناصر فتح الوطنية والشريفة الذين قدموا التضحيات استشهاداً وجراحاً وأسراً يجدون في القيادة تعبيراً حقيقياً عن تطلعاتهم. وأصبح اللجوء إلى "التاريخ الجميل" وبطولات جيل التأسيس هو السلاح الذي يستخدمه الكوادر في الدفاع عن فتح ومسارها، مع استخدام لغة اعتذارية تبريرية عن السياسات والمسلكيات الحالية التي يرونها.

بهذه الأزمات تدخل حركة فتح استحقاقات الانتخابات الفلسطينية، وهي أزمات لا تنبئ بأداء جيد على الرغم من القاعدة الشعبية الواسعة التي لا تزال فتح تملكها. ولعل بعض قيادات فتح يرغب في تأجيل هذه الاستحقاقات، وفقاً لحسابات فتحاوية داخلية أو مدفوعاً بضغوط خارجية عربية ودولية وحتى إسرائيلية. لكن ما هو أهم أن تقوم فتح بمراجعة مساراتها مراجعة جادة مع الإصرار على متابعة إصلاح البيت الفلسطيني وترتيبه، لأن إصلاحه هو بحد ذاته إسهام رئيسي في إصلاح فتح نفسها.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي