وضعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حزب الله اللبناني أمام استحقاق استراتيجي مفاجئ، وفرضت عليه بلورة خيارات ملائمة للتعامل مع مقتضيات المعركة، وقد آثر حزب الله بداية اتخاذ موقف رسمي داعم لحركة حماس، وباشر منذ اليوم التالي للحرب بعمليات محدودة في مزارع شبعا، تطورت تدريجياً لتشمل هجمات ضدّ الجنود الإسرائيليين واستهداف أجهزة المراقبة والرصد والاستشعار الإسرائيلية على طول الحدود بشكل يومي، فضلاً عن إتاحة الميدان للفصائل الفلسطينية للعمل العسكري ضدّ إسرائيل من الأراضي اللبنانية.
استقرت استراتيجية حزب الله على مشاغلة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبحسب أمينه العام حسن نصر الله فإن إسرائيل أجبرت على نشر نحو ثلث جيشها وثلث قواتها اللوجستية، ونصف قدراتها البحرية وقدرات الدفاع الصاروخي، وربع القوات الجوية على جبهة لبنان، وأظهر نصر الله في كلمة له في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أن عمليات الحزب ستتصاعد توازياً مع محددين، أولهما يتعلق بتطورات الحرب على غزة، والثاني يرتبط بسلوك إسرائيل العسكري تجاه لبنان.
في المقابل، ارتكزت السياسة الإسرائيلية على مبدأ عسكري كلاسيكي، وهو أنه عند مواجهة جبهتين معاديتين، فيتحتم عليك مواجهة الأخطر وتثبيت الأخرى (القتال بالحد الأدنى)، وعليه عمد جيش الاحتلال الإسرائيلي على تثبيت الجبهة اللبنانية من خلال المراوحة بين القيام بعمليات رد الفعل والحفاظ على سقف اشتباك معين يحول دون مواجهة واسعة، وقد جرت ترجمة هذه السياسة من خلال استهداف مقدرات الحزب وعناصره الناشطين على الحدود.
كانت هذه صورة الوضع حتى أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023، عندما استمر الاشتباك وفق قواعد متفاهم عليها ضمناً، وحدود لا يرغب أي من الطرفين تجاوزها لإدراكهما ثمن ذلك، لكن عمليات الحزب المتواصلة يومياً دفعت إسرائيل إلى إخلاء العشرات من التجمعات الاستيطانية على الحدود الشمالية التي تضم عشرات الآلاف من السكان، ما فرض عليها تكاليف باهظة، وتعين عليها توفير موارد مالية لدعم ما يقرب من 200 ألف شخص نزحوا من جنوب إسرائيل وشمالها.
فضلاً عن التكاليف المالية، فإن نزوح الآلاف شكل ضغطاً اجتماعياً وسياسياً على الحكومة الإسرائيلية، أفرز ذلك المنعرج الأول في سيرورة اشتباك حزب الله مع إسرائيل التي ظهر انزعاجها في تهديدات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنه إذا لم تثمر الوسائل الدبلوماسية في إبعاد الحزب فستفعل إسرائيل الوسائل العسكرية.
ومع مطلع عام 2024، اغتالت إسرائيل نائب المكتب السياسي لحركة حماس في حركة حماس صالح العاروري في بيروت، وهي العملية التي شكلت المنعرج الثاني لمرحلة أكثر حدة في الاشتباك، وقيّم حزب الله الاغتيال على أنه تجاوز للخطوط الحمراء وردّ بزيادة وتيرة إطلاق الصواريخ الموجهة والطائرات المسيّرة ضد الدبابات والمواقع العسكرية.
في المقابل، كثّف الاحتلال الإسرائيلي هجماته على المقدرات الثقيلة لحزب الله، وأتبع ذلك باغتيال وسام الطويل القائد الميداني البارز في حزب الله، وردّ الأخير باستهداف عبر الطائرات المسيّرة مقر القيادة الشمالية لجيش الاحتلال.
كانت هذه ملامح المرحلة الثانية، إذ جرى تكثيف الجهود الدبلوماسية لإنهاء حالة الاشتباك، وميدانياً احتفظت إسرائيل بحرية عمل عبر اغتيال القادة الميدانيين للحزب، فيما جابه الحزب بوتيرة غير مسبوقة من النيران، وفي هذه المرحلة فإن حالة الاشتباك المتصاعدة تنتظم وفق ثلاث قواعد رئيسية.
القاعدة الأولى هي معادلة النطاق الجغرافي، فمنذ بداية العمليات استقر الاشتباك في نطاق لا يتجاوز خمسة كيلومترات في الجنوب اللبناني، وفي المقابل لم تخرج عمليات الحزب عن نطاق مستوطنات الشمال، وحاولت إسرائيل كسر هذه القاعدة عبر محاولة اغتيال مسؤول كبير في حماس في بلدة جدرا، التي تقع بعمق 40 كيلومتراً من الحدود الإسرائيلية اللبنانية، رد الحزب عليها بقصف قاعدة عسكرية في صفد، تقع بعمق 15 كيلومتراً عن الحدود اللبنانية، وهو الهجوم الذي اعتبرته إسرائيل بأنه الأخطر.
ولم يكتفِ الطرفان بتوجيه الرسائل إزاء المعادلة بالنار فحسب، بل بالتصريحات أيضاً، إذ قال غالانت: "لا يمكننا الهجوم فقط على مسافة 20 كيلومتراً، بل أيضاً على مسافة 50 كيلومتراً، وفي بيروت، وفي أي مكان آخر"، فيما رد عليه نصر الله: "أقول رداً على تصريحات وزير دفاع إسرائيل، إن لدينا قدرة صاروخية دقيقة تجعل يدنا تصل حتى إيلات".
والقاعدة الثانية، المدنيون مقابل المدنيين، إذ أدى هجوم إسرائيلي على مدينة النبطية بلبنان في الردّ على ضربة صفد إلى مقتل ستة مدنيين بينهم طفلان وامرأة، وهو ما عدّه حزب الله تجاوزاً لمعادلة عدم المسّ بالمدنيين، وهو ما وصفه نصر الله "تطور يجب التوقف عنده لأنه استهدف مدنيين".
ومن هنا جاء رد الحزب بقصف مستوطنة كريات شمونة شمالي إسرائيل بعشرات الصواريخ، وهي من المرات النادرة التي يهاجم فيها الحزب أهدافاً غير عسكرية، إذ أراد ردع إسرائيل عن استهداف المدنيين في لبنان.
وتتمثل القاعدة الثالثة في اغتيال القيادات الذي يقابله تكثيف العمليات، وتزامناً مع قصفه كريات شمونة، هاجم حزب الله 8 مواقع إسرائيلية وهي "بركة ريشا والناقورة البحري ورويسات العلم والسماقة والراهب والمرج ومحيط ثكنة زرعيت، وثكنة زبدين في مزارع شبعا"، وجاءت تلك الضربات رداً على اغتيال قائد بقوات الرضوان محمد الدبس ونائبه حسن عيسى في النبطية.
ورغم أن هذه العمليات تزامنت مع ردّ حزب الله على استهداف المدنيين في النبطية، لكن السوابق تثبت أن حزب الله يرفع من وتيرة عملياته رداً على اغتيال قادته، إذ وجه في وقت سابق وفي إطار الردّ على اغتيال القائد بالحزب وسام الطويل، ضربات مكثفة شملت مقر قيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال الإسرائيلي في مدينة صفد.
هذه المعادلات الثلاث هي ما يحدد نمط ومستوى الاشتباك الحالي بين حزب الله وإسرائيل، بالإضافة إلى ما تفرزه الحرب في قطاع غزة، ومن الملاحظ أن إسرائيل هي الطرف المبادر لإحداث تغيير في هذه المعادلات، فيما يكتفي الحزب برد الفعل للجم إسرائيل عن تغيير القواعد.
وتعزى مبادرة إسرائيل إلى شعورها بأنه أصبح بإمكانها تغيير الواقع على الجبهة الشمالية، حيث ما تزال تعتبر أن الوضع الذي فرضه حزب الله هو طارئ وينتهز انشغالها بالمعركة في غزة، لذا تريد التغيير بسبب شعورها بقدر من الأريحية بعد تسريح قوات الاحتياط وخروج نسبة كبيرة من قواتها من عمق القطاع.
كما تريد إسرائيل من الضغط على حزب الله إعادة ترتيب قواعد الاشتباك وفقاً لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي تحاول أن تفعل ذلك تدريجياً كي لا تنزلق فجأة إلى مواجهة واسعة، وفي المقابل يسعى حزب الله إلى قطع الطريق على إسرائيل، ويقدر أن الفرصة ما تزال ماثلة لاستنزاف إسرائيل وتدفيعها مزيداً من الأثمان، وكذلك الإبقاء على الاشتباك باعتبارها ورقة ضغط لوقف الحرب في غزة، تزامناً مع تعثر فرص التوصل إلى اتفاق تهدئة.
عوامل التصعيد والهدوء يشير تصارع الإرادات إلى تشكل وضع قتالي مختلف، بدت أوضح مظاهره في تصعيد عمليات الفعل ورد الفعل، ومع ذلك فإن هذا الوضع يحمل عوامل التصعيد والهدوء.
ترتبط عوامل التصعيد بإصرار كل طرف على موقفه إزاء قواعد الاشتباك القائمة، إذ توعد مسؤولون إسرائيليون بتنفيذ عملية عسكرية واسعة، ما لم يجرِ التوصل إلى تسوية تفضي إلى إبعاد مقاتلي حزب الله عن الحدود إلى ما وراء نهر الليطاني، في حين هدّد الحزب برد قوي.
وفي وضع ضبابي كهذا، فإن حدثاً ميدانياً ما يقع في غمرة الاشتباك قد يؤدي إلى تراجع منفلت الزمام نحو مواجهة أوسع، رغم امتلاك الطرفين بنية مؤسسية حاذقة إزاء عمليات تقدير الموقف واتخاذ القرار، لكن في مثل هذه الظروف تزداد الفرص لوقوع خطأ في التقدير، فيسيء طرف فهم نيات الآخر ويجري الانجرار إلى مزيد من التصعيد.
وبالطبع، فإن تفجراً في مجريات المعركة بقطاع غزة قد يكون قوامه الرئيسي هجوماً إسرائيلياً على رفح سيفضي إلى النتيجة ذاتها، كما برز في الآونة الأخيرة باعث تصعيد آخر، بعد إشارة وسائل إعلام دولية إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية نفذت عمليات تخريبية ضد مقدرات مدنية في إيران، وبديهياً فإن توتراً بين إسرائيل وإيران سينتقل بسرعة إلى جبهة المواجهة بين حزب الله وإسرائيل.
في المقابل، ثمة عوامل أخرى قد تدفع نحو الهدوء، أهمها التوصل إلى هدنة مستدامة أو مؤقتة في قطاع غزة، وإمكانية نجاح الجهود الدبلوماسية في إقناع إسرائيل وحزب الله بتخفيض التصعيد مبدئياً في ظل إصرار الحزب على الاستمرار بعملياته حتى انتهاء حرب غزة.
في الوقت الحالي، حزب الله وإسرائيل لا يزالان بعيدين عن حافة الهاوية، لكنهما يقتربان تدريجياً منها، وهذا لا يعني بالضرورة استمرار المضي نحوها، فكلا الطرفين لا يريد الانزلاق إلى سيناريو مواجهة واسعة وهو السيناريو الذي يدرك كل منهما أنه لا يستطيع تحمّل تكاليفه.
ختاماً، بين الموقف الحالي والهاوية تكمن مساحة تسمح لكل طرف بالمناورة والحفاظ على مستوى التحدي، وفي إطار هذه المساحة تحاول إسرائيل تغيير القواعد، بينما يعمل الحزب على الحفاظ عليها.
وباستثناء وقف الحرب على غزة أو حدث غير طبيعي على الجبهة اللبنانية، فإن حالة الاشتباك في المرحلة القادمة بين حزب الله وإسرائيل ستظل تراوح هذا الحيّز، لا وقف لإطلاق النار، ولا مواجهة مفتوحة، وبناءً عليه فإنه من الأرجح أن تشهد عمليات الاشتباك بين الحزب وإسرائيل تبايناً بين رفع وتيرة التصعيد وخفضه.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.