ماكرون بالجزائر.. البحث عن مخرج من نفق إخفاقات دبلوماسية متوالية
بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم أمس الخميس زيارة إلى الجزائر تستمر 3 أيام، يحاول خلالها الخروج من أزمة حقيقية تعيشها الدبلوماسية الفرنسية في القارة الإفريقية، بخاصة مع الشركاء التقليديين كالجزائر.
الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء زيارته إلى الجزائر التي بدأها يوم الخميس 25 أغسطس 2022 (Others)

بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس زيارة إلى الجزائر تستمر 3 أيام، يحاول خلالها الخروج من أزمة حقيقية تعيشها الدبلوماسية الفرنسية في القارة الإفريقية، بخاصة مع الشركاء التقليديين كالجزائر، التي تضاف إلى وضع مشابه لا تحسد عليه باريس أوروبياً ودولياً، فهل سيستطيع ساكن قصر الإليزيه تحقيق ذلك في جولة لا يعلق عليها الطرف الجزائري آمالاً كبيرة إن لم تُبنَ على قاعدة "الند للند" التي شدد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عليها في أكثر من مرة.

لقد أصبحت السياسة الخارجية الجزائرية بعد حراك 22 فبراير/شباط 2019 لا تقبل مبدأ المهادنة في القضايا الدبلوماسية مع باريس. ولذلك فإن زيارة الرئيس الفرنسي على رأس وفد كبير ورفيع المستوى يؤشر إلى نجاح الجزائر في إجبار فرنسا على إعادة التفكير جدياً بمقاربتها معها.

جرم الذاكرة

على خلاف الزيارة الأولى لماكرون التي لم تتعدَّ 12 ساعة ستدوم هذه المرة فترة بقائه هناك 3 أيام، بالنظر إلى حجم الأزمة بين البلدين العام الماضي، وكان الرئيس الفرنسي أحد أسبابها حين أنكر وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي (1830-1962)، وهو ما تسبب في جفاء دبلوماسي بين البلدين استمر لأشهر بعد أن استدعت الجزائر سفيرها في باريس للتشاور.

ومن هذا المنطلق سيشكل ملف الذاكرة أهم القضايا التي سيطرحها ماكرون الذي لم يكن في مستوى التوقعات والوعود التي أطلقها قبل وصوله إلى الإليزيه، فهو حتى اليوم لم يجرؤ مرة ثانية على وصف الاستعمار الفرنسي بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، بل إن إنكاره للأمة الجزائرية قبل الاحتلال محا كل ما صرح به سابقاً، وأظهر أن ما قاله في مقابلته التلفزيونية في فبراير/شباط 2017 كان مجرد نفاق انتخابي لكسب أصوات الجزائريين بفرنسا.

وإن كان ماكرون لن يسلط الضوء على مسألة الذاكرة التي لا تزال معقدة على ضفتَي البحر المتوسط. وتسببت له في فقدان كثير من التقدير الذي حظي به لدى الرأي العام الجزائري قبل تولِّيه الرئاسة"، وفق ما نقلت فرانس برس، فإن الأمر مختلف لدى الطرف الجزائري، إذ نقلت وكالة الأنباء الجزائرية أن ملف الذاكرة من الملفات التي توليه الجزائر أهمية خاصة لتطوير العلاقات الجزائرية-الفرنسية.

وفي حال لم يقدم ماكرون برنامجاً واضحاً لمعالجة قضايا الذاكرة العالقة، فسيكون محكوماً على هذه الزيارة بالفشل، بالنظر إلى أن أهم الملفات المطروحة في هذا الشأن لم يحقَّق أي تقدم بشأنها، والمتمثلة في ملف الأرشيف وجماجم المقاومين الجزائريين في متحف الإنسان بباريس وتعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، والمفقودين الجزائريين خلال فترة الاحتلال الفرنسي، إذ قال وزير المجاهدين الطيب ربيقة إن الجزائر لن تتنازل عن مطالبة باريس بمعالجة هذا الملف، وستواصل مساعيها لتحقيقه.

وبالنسبة إلى الطرف الجزائري فإن معالجة هذه القضايا العالقة أمر ضروري لإبداء فرنسا حسن نية للذهاب إلى "المصالحة التاريخية" التي يدعو إليها ماكرون، والتي لن تتأتى في الوقت الراهن ما دامت باريس لا تستطيع تحمل مسؤوليتها الأخلاقية عما ارتكبه من جرائم في الجزائر، بالاعتراف بهذه الجرائم والاعتذار عنها، ثم التعويض عن أضرارها.

تراجع اقتصادي

بالنسبة إلى الرئيس تبون فإن تطوير التعاون الاقتصادي بين بلاده وفرنسا يكون ممكناً مستقبلاً باعتماد ندية في العلاقات والتخلص من النظرة الاستعمارية التي اعتمدتها باريس في هذا المجال، فكانت أغلب استثماراتها مبنية وفق نظرة استغلالية لا على شراكة اقتصادية، ولذلك فإن مهمة ماكرون هذه المرة سترتكز حول هذه النقطة ومحاولة إقناع الجزائريين أن بلادها يمكنها أن تحافظ على تعاونها الاقتصادي السابق، من دون حاجة إلى البحث عن بديل آخر.

وهنا يمكن وصف أداء ماكرون الاقتصادي في الجزائر بالفاشل بالنظر إلى أنه خسر صفقات ومجالات عديدة لمنافسين آخرين على رأسهم الصين التي أصبحت الممون الأول للجزائر بنسبة 16.5%، فيما تراجعت حصة الصادرات الفرنسية إلى الجزائر إلى نسبة لا تزيد على 7.17% من حجم الواردات الجزائرية، خلال السداسي الأول من هذا العام.

ويظهر التراجع الفرنسي أيضاً في غياب فرنسا عن مشاريع اقتصادية جزائرية تعتبرها ضمن أولويتها الحالية، فلا وجود لباريس في مشاريع التعدين واستثمارات الحديد والصلب التي ذهبت إلى الصين وتركيا وقطر، كما أن صفقات الاستثمار الطاقوي الكبرى يبقى الوجود الفرنسي بها ضعيفاً، فإمدادات الغاز الجزائري ظفرت بها إيطاليا، ولا تزال مستمرة مع إسبانيا رغم وقوع أزمة دبلوماسية مؤخراً مع مدريد، فيما قد تذهب صفقات الطاقات المتجددة سواء الهيدروجين الأخضر أو الطاقة الشمسية إلى كل من ألمانيا وإيطاليا، واليوم تقتصر الاستثمارات الفرنسية على أعمال تنقيب واستكشاف لتوتال التي رفضت الحكومة الجزائرية في 2019 استحواذها على أصول شركة أناداركو بتروليوم الأمريكية في الجزائر.

ولا تعد توتال الوحيدة التي خسرت استثمارات في الجزائر، بل إن الحكومة ألغت صفقات مع مجموعة سويز الفرنسية لإدارة شبكة المياه في الجزائر العاصمة وتيبازة ووهران، وكذا مع شركة راتيبي باريس التي كانت تسيِّر مترو الجزائر.

ومن هذا المنطلق فإن مهمة ماكرون في الحصول على تعهد جزائري برفع إمدادات لتعويض روسيا عبر أنبوب الغاز التي تحدثت عنه ألمانيا والذي ينطلق من إسبانيا والبرتغال مروراً بفرنسا وصولاً إلى وسط أوروبا قد لا تكلل بالنجاح في حال لم يقدم الرئيس الفرنسي أوراقاً أخرى على الطاولة.

تراجع

يحل ماكرون بالجزائر، وبلاده خارجة من إخفاق دبلوماسي كبير في منطقة الساحل التي كانت إلى وقت قريب وغيرها من المناطق الإفريقية مجال نفوذ فرنسي بامتياز، ففي منتصف الشهر الحالي أعلنت فرنسا انسحاب قوتها من مالي، بعد أن طالبت باماكو بذلك، ودون أن تستطيع باريس حل الأزمة في الجارة الجنوبية للجزائر التي تدخلت فيها عسكرياً قبل تسع سنوات.

ولأن الدخول إلى الساحل ليس كالخروج منه، فباريس اليوم متهمة من قبل باماكو بانتهاك سيادة مالي ودعم جماعات إرهابية والتجسس على حكومة مالي.

وبما أن اتفاق الجزائر 2015 يظل المسار المعتمد من قبل الأمم المتحدة لحل الأزمة في مالي، فإن ماكرون يأمل أن تساعد جولته إلى الجزائر بأن يكون خروج بلاده من الساحل غير مُخزٍ، بخاصة بعد أن تأكد أن الوجود الفرنسي هناك جزء من المشكلة ولن يكون جزءاً من الحل.

والأمر لا يختلف بالنيجر، التي تتعالى فيها الأصوات الرافضة لانتقال قوات برخان إلى البلاد، مطالبة أيضاً برحيل الجيش الفرنسي من هناك، وهي مطالب تكررت في بوركينا فاسو وتشاد والكونغو وعدة دول إفريقية.

وحتى في أوروبا فإن الثقل الفرنسي على مستوى القارة قد تراجع، جراء إخفاق ماكرون الذي تحادث أكثر من مرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إنهاء الحرب في أوكرانيا، وهو الإخفاق الذي تزامن مع الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، ما يجعل المسؤولية القارية أكثر والفشل فيها أبشع.

إذن وانطلاقاً من هذه المعطيات الدولية التي يزور فيها ماكرون الجزائر، يتضح أن الأمر يتعلق بزيارة بحث عن ترميم مكانة من رئيس يعيش هو وبلاده في أزمة تعددت مجالاتها وجغرافياتها، وهو الوضع الذي يحتم على المفاوض الجزائري أن يبني علاقاته الجديدة مع باريس هذه المرة من موقع قوة لا من منطلق ضعف وحاجة إلى مستعمر قديم حاول إفشال كل تجارب النهضة في غالبية دول المنطقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي