تشتدّ المواجهة الروسية-الأوروبية حول الغاز بين تقليل الاعتماد وتخفيض الإمداد. (Reuters)
تابعنا

هل ينجح الرئيس بوتين في شرذمة أوروبا تحت وطأة أزمة الطاقة والتضخم والركود، ليخرج من حرب أوكرانيا بنصر عسكري وسياسي واقتصادي، أم تصمد الديمقراطيات الأوروبية فيُمنَى القيصر بالهزيمة، على المستويات الثلاثة، ولتصبح إطالة أمد الحرب والقدرة على تحمُّل الألم هي السلاح السري لانتصار أوروبا وصيانة وحدتها؟

قد تكون المقاربة الأصحّ للإجابة عن هذه التساؤلات هي استعراض عوامل ضعف كلا الطرفين، إذ ساهمت أزمة إمدادات الطاقة بكشف مَواطن الضعف الأوروبية، في حين قد تؤدي الحرب والعقوبات إلى خلق عوامل ضعف واختلالات بنيوية في وضع روسيا.

عوامل ضعف أوروبا

ساهمت الأزمة في إظهار مَواطن ضعف مقلقة في أوروبا، أهمها:

- إرتهان أوروبا للغاز الروسي بشكل يصعب تجاوزه على الأمد القصير، نظراً إلى عدم توافر مصادر بديلة كافية، ومحدودية طاقة مرافق تسييل الغاز في حال استطاعت أوروبا جذب إمدادات السوق الفورية بدفع أسعار أعلى من الدول الآسيوية، وهو ما يحدث حالياً.

- تصاعد نفوذ الأحزاب الشعبوية والقومية اليمينية المناهضة أساساً للوحدة الأوروبية، والمؤيدة ضمناً للتضحية بأوكرانيا. وتَمثَّل ذلك في نتائج الانتخابات الرئاسية والنيابية الفرنسية، وفي الإطاحة برئيس الوزراء الإيطالي بعد تخلّي الأحزاب المرتبطة بعلاقات وثيقة مع الكرملين عن دعمها للحكومة الائتلافية.

- الانقسام القديم المتجدد بين شرق القارة وغربها، إذ تطالب الدول المجاورة لأوكرانيا بمواصلة دعم أوكرانيا بهدف إلحاق الهزيمة بروسيا، في حين تميل دول غرب القارَّة مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا نحو تسوية تحفظ سيادة أوكرانيا من دون هزيمة روسيا، وذلك ما عبّر عنه بوضوح الرئيس الفرنسي، بمطالبته بـ"عدم إذلال روسيا".

- الانقسام الكامن بين الشمال الغنيّ، وتحديداً ألمانيا، والجنوب "الفقير"، إذ بدأت دول الجنوب مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، المطالبة بزيادة موازنة صندوق التعافي من كورونا وتوسيع نشاطه ليشمل التعامل مع الآثار الاقتصادية للحرب ودعم مشاريع الطاقة النظيفة. وهذا الانقسام الذي كاد يطيح بالاتحاد خلال أزمة الديون السيادية، مرشح للتفاقم في ظلّ رفض ألمانيا القاطع لتكرار تجربة تسخير مواردها المالية لمساعدة الدول الأخرى.

عوامل ضعف روسيا

لم تكشف الحرب مَواطن ضعف روسيا وحسب، بل تهدّد بتقويض عناصر قوتها الاقتصادية والجيوسياسية. وبعيداً عن المعضلة العسكرية التي تواجهها لعدم القدرة على حسم المعركة ومواجهة حرب استنزاف طويلة، فإن التهديد الفعلي يكمن في مجالين: الأول أن الاقتصاد الروسي الذي صمد حتى الآن، بل حقّق مكاسب مهمَّة بسبب ارتفاع أسعار النفط وتَحسُّن سعر صرف الروبل، سيواجه مع استمرار الحرب والعقوبات اختلالات بنيوية. وأبرز هذه الاختلالات تراجع التدفقات الاستثمارية الغربية، والنقص الفادح في المكونات التكنولوجية، ما يعوق أو حتى يعطّل الإنتاج الصناعي.

إضافة إلى مواجهة المشكلة الأخطر المتمثلة بفقدان السوق الأوروبية كمستورد رئيسي للغاز والنفط، وكمورد رئيسي للسلع والبضائع، الأمر الذي سيؤدي إلى وقوع روسيا لقمة سائغة في "فم التنين" الصيني، وهو المصير الذي سعت روسيا لتجنُّبه على مدى عقود، علماً أن الصين لا تستطيع ولا ترغب في أن تحلّ محلّ أوروبا كسوق للهيدروكربونات الروسية، كما أنها لا تستطيع ولا ترغب في مساعدة روسيا على تحقيق انتصار كامل بما يجعلها دولة عظمى على حدودها. وجلّ ما يمكن أن تقدمه لها هو قدر محسوب من الدعم الاقتصادي والسياسي لمنع انهيارها.

يُضاف إلى الاختلالات وعناصر الضعف الروسية، عامل آخر يتمثّل بنجاح أوروبا في تجاوز الموجة الأولى من "تسونامي" تقليص إمدادات الغاز، ولو بقدر كبير من الألم والخسائر.

وقد خلصت ثلاث أوراق أعدّها صندوق النقد الدولي حول تداعيات أزمة إمدادات الغاز والحرب على أوكرانيا، إلى أن أوروبا ستتمكن من مواجهة هذه التداعيات في حال نجحت في ترسيخ وحدتها وتضامنها، وتنفيذ ما أسماه الصندوق "منهج السوق الموحَّدة".

وهو المنهج الذي يتم بموجبه توفير الغاز للدول الأكثر حاجة، سواء من المخزونات الأوروبية أو من زيادة واردات الغاز.

ويتوقع الصندوق تقلص الآثار السلبية لتصل إلى تراجع النشاط الاقتصادي بنسبة أقل من 1%، في حين يتوقع ارتفاع هذه النسبة إلى 6% في حال الانزلاق إلى منهج السوق المفتتة حيث تسعى كل دولة لحماية مصالحها الوطنية والاحتفاظ بالحدّ الأقصى من مخزونات الغاز.

يُضاف إلى ذلك النجاحُ في بناء مخزونات وتأمين إمدادات تشكّل نحو 60-70% من احتياجاتها. ويرى صندوق النقد أن هذه النسبة مرشحة للزيادة بسبب تراجع الاستهلاك كنتيجة لارتفاع الأسعار، وكنتيجة لخطة تخفيض الاستهلاك بنسبة 15% التي أقرها الاتحاد مؤخراً.

علماً أن النقص الكبير في الإمدادات يتركز في هنغاريا وسلوفاكيا وتشيكيا، وهذه الدول ترتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا ولديها ترتيبات خاصة ومباشرة معها لمواصلة تزويدها بالغاز، مع "غضّ نظر" من قبل الاتحاد الأوروبي، بخاصة هنغاريا التي تُعتبر حصان طروادة الروسي.

تحمل الألم أم إزالة أسبابه؟

قد يصحّ رهان الرئيس بوتين على أن أوروبا ستصرخ من الألم في مواجهة أزمة الغاز والركود والتضخُّم، ولكن رهانه على تراجعها عن دعم أوكرانيا أو شرذمتها وانفراط عقد تحالفها مع أمريكا، هو رهان وصفه تقرير لمؤسسة راند، بـ"خطأ كبير في الحسابات".

والفرق الرئيسي بين أوروبا وروسيا في التعامل مع تداعيات الحرب، هو أن روسيا تعتبر أن العامل الحاسم في الانتصار هو القدرة على تحمل الألم، وأن الأنظمة الديمقراطية والشعوب في أوروبا، لديها قدرة محدودة على الصمود حتى نهاية الحرب.

في حين تعتبر أوروبا أن العامل الحاسم في الانتصار يتجاوز القدرة على تحمل الألم ليطال القدرة على التكيف معه وإزالة أسبابه ثم التعافي من أثاره كما ذكر مقال بالغ الأهمية لمجلة "فورين أفيرز"، أشار إلى أن "المؤسسات والأنظمة الديمقراطية قد تكون بطيئة وفوضوية، لكنها في الوقت نفسه قوية ومتماسكة"، وهو ما ظهر خلال أزمة الديون السيادية قبل سنوات، وجائحة كورونا وخروج بريطانيا من الاتحاد.

ويمكن القول إن رهان الرئيس بوتين على الخروج منتصراً من الحرب، ونجاحه بإعادة العلاقات مع أوروبا إلى طبيعتها، بات مستبعَداً في ظل قيامه بغزو دولة تقع في فنائها الخلفي، وهي التي ظنّت أن الحروب باتت جزءاً من تاريخها وليس من جغرافيتها، وهو الأمر الذي دفعها إلى اتخاذ قرارات استراتيجية بتقليص العلاقات التجارية والاستثمارية والنفطية مع روسيا، واندفاعها لإعادة بناء ترسانتها العسكرية وإعادة تقوية وتوسيع حلف الناتو.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً