الحدود التركية - اليونانية (Others)
تابعنا

ويُعَدُّ الخلاف التركي-اليوناني من أقدم الخلافات وأعقدها، إذ يتضافر فيه التاريخي مع الديني والقومي مع الجيوسياسي، كما أنه لم يخفت مع السنين بل أعادت إحياءَه ثروات الغاز الطبيعي المكتشَفة/المتوقَّعة في شرق المتوسط، لا سيما وأن أحد أهمّ الملفات الخلافية بين الجانبين هو الحدود البحرية لكل منهما وما يترتب على ذلك من تنافس على النفوذ والسيادة ومصادر الطاقة.

على مدى السنوات الفائتة قادت اليونان محوراً إقليمياً في مواجهة تركيا في شرق المتوسط تبلور، لاحقاً تحت اسم "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي تجاهل حقوقها كدولة تملك الساحل الأطول عليه، وتصلبت في مطالبها الساعية للاستئثار بالحصة الكبرى من الثروات بتحديد الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة وفق منطق "التنصيف" بين تركيا وأصغر الجزر اليونانية، وليس منطق "الإنصاف" الذي تدعو إليه أنقرة.

في فترة ما، بقيت تركيا وحيدة إلى حد كبير، فقد تخلّت الولايات المتحدة نسبيّاً عن حيادها وأظهرت بعض المواقف الداعمة لأثينا في إشارات لا تخفى دلالاتها، مثل زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو اليونان وحدها دون تركيا، والمناورات العسكرية الأمريكية-اليونانية قرب الحدود التركية وزيادة وجودها العسكري هناك، وغير ذلك.

وعلى أثر أعمال التنقيب التي كانت تُجرِيها تركيا في شرق المتوسط، سعت أثينا لتحويل الخلاف بينها وبين أنقرة إلى أزمة تركية-أوروبية، إذ استقوت بمواقف داعمة لها من الاتحاد الأوروبي، وساهم الدعم الفرنسي اللا محدود لها في استصدار قرارات عقابية لأنقرة. بيد أن كل ذلك لم يفلح، إذ عادت العلاقات التركية-الأوروبية إلى سابق عهدها وتوقفت بروكسل عن لغة التهديد والعقوبات لا سيما بعد أن وقفت أنقرة أنشطة التنقيب كبادرة حسن نية.

أكثر من ذلك، فقد بدأت أنقرة منذ بداية 2020 سياسة تهدئة وتقارب مع عدة أطراف وفي مقدمتها بعض خصومها الإقليميين على مدى العقد الفائت، فعقدت مع مصر عدة جولات من الحوار ويُنتظر أن تُتوَّج بلقاء على مستوى وزيرَي خارجية البلدين، واستقبل أردوغان الرئيس "الإسرائيلي" في أنقرة قبل أن يُوفِد وزير خارجيته إلى تل أبيب، وزار أردوغان نفسه المملكة العربية السعودية والتقى الملك سلمان ووليّ عهده، وزار وليّ عهد أبو ظبي -في حينها- محمد بن زايد أنقرة قبل أن يعيد أردوغان الزيارة للإمارات أكثر من مرة.

سياسة "تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم" التي كانت دعت إليها تركيا سابقاً تحولت إلى مسار ملموس في السنتين الأخيرتين، لعدة أسباب دولية وإقليمية ومحلِّية، من ضمنها قبول الأطراف الأخرى بها، وشملت مؤخراً ليس فقط الخصوم بل أيضاً مَن يُوصَفون أحياناً بأعدائها التقليديين.

فقد استقبلت تركيا خلال الشهور الماضية رئيس الوزراء الأرميني، ثم رئيس الوزراء اليوناني نفسه خلال فترة نشاط دبلوماسي تركي على هامش مؤتمر أنطاليا للدبلوماسية. وخلال اللقاء الذي جمع ميتسوتاكيس وأردوغان أكّد الجانبان ضرورة التركيز على أجندة إيجابية وفتح قنوات الحوار وتطوير العلاقات البينية وتجنُّب الملفات الخلافية، مؤكّدَيْن المسؤولية التي يضطلع بها البلدان في البيئة الأمنية المستجدة في أوروبا بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية.

لكن رئيس الوزراء اليوناني انقلب تماماً على هذا المسار الإيجابي لدى زيارته الولايات المتحدة الشهر الفائت في الذكرى 201 لبدء العلاقات بين البلدين، حيث كال في خطابه أمام الكونغرس الاتهامات لأنقرة "بانتهاك الأجواء اليونانية"، مؤكداً رفض بلاده "حلّ الدولتين في جزيرة قبرص" ومحرّضاً أعضاء الكونغرس على عدم تمرير صفقات بيع سلاح لتركيا.

هذا النكوص عن المسار الإيجابي الذي بدأ بين البلدين وكان مرشَّحاً لأن يستمرّ رغم الملفات الخلافية الكبيرة استدعى ردة فعل حادة جدّاً من الرئيس التركي، إذ قال أردوغان إنه "لم يعُد هناك شخص اسمه ميتسوتاكيس بالنسبة إليّ"، منتقداً تراجع الأخير عن الاتفاق معه على "عدم إقحام أطراف ثالثة بين البلدين"، ومعلناً رفضه لقاءه في اجتماع مجلس التعاون الاستراتيجي الذي كان مقرَّراً خلال العام الحالي.

ولَإن ركّز أردوغان على عدم أخلاقية ما فعله ميتسوتاكيس من باب أنه لم يلتزم كلمته، فإن ما فعله الأخير يُعوِزه الذكاء السياسي كذلك، إذ أتى في ظرف غير مناسب على الإطلاق من عدة زوايا.

ففي المقام الأول، تسير علاقات تركيا مع عدد من القوى الإقليمية في مسار إيجابي عموماً، وهي قوى في عمومها من حلفاء وشركاء اليونان، ما يعني أن تركيا استطاعت إلى حد ما كسر حدة مواجهة المحور الإقليمي لها، وما زالت تسعى لتوقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع مصر سيكون -إن تمّ- ضربة قاصمة للادعاءات والمطالب اليونانية.

ومن جهة ثانية، تبدو تركيا اليوم في حال أفضل بكثير على صعيد علاقاتها مع الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص لا سيما على هامش الحرب الروسية-الأوكرانية.

فهي الطرف الوحيد تقريباً الذي يمكنه لعب دور موازن لروسيا في عدة مناطق وساحات، إضافة إلى وساطتها في الأزمة، وعلاقاتها الجيدة مع موسكو، والفيتو الذي تشهره في وجه انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو.

ما يعني أن أهميتها بالنسبة إلى الحلف زادت بشكل غير مسبوق مؤخراً، ما يؤهلها لتحصيل مكاسب لم تكُن ممكنة بسهولة سابقاً، ولعل ذلك من أسباب تأكيدها شنّ عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري.

ومن زاوية ثالثة، يبدو أن صفقة مقاتلات F-16 تسير بشكل إيجابي بين أنقرة وواشنطن حسبما صرّح وزير الخارجية مولود جاوش أوغلو قبل أيام، ما يعني أن التحريض اليوناني عليها قد يكون بلا جدوى أو طائل.

وأخيراً، تخسر أثينا بخطوة مثل هذه مبادرات النيات الحسنة التي أبدتها أنقرة خلال الفترة الماضية، وتعيد العلاقات إلى مسارات التوتر، لكن هذه المرة دون قدرة على تحشيد دول الاتحاد الأوروبي ضدها.

وعليه، ختاماً، يمكن النظر إلى تصريحات ميتسوتاكيس في الكونغرس الأمريكي على أنها قفزة في الهواء بلا فائدة إلا تسميم العلاقات التركية-اليونانية التي كان يمكن أن تبدأ مساراً إيجابياً إن صدقت النيات، ومحاولة غير ناجحة لتأليب الولايات المتحدة على تركيا في توقيت لا تملك رفاهية ذلك فيه.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً