معطف الريح.. هل يواري سوءة الميركافا؟
روجت إسرائيل لمنظومة "تروفي" كحل نهائي للقذائف المضادة للدروع، لكن ميدان الحرب أثبت عكس ذلك، فما زالت مدرعات الجيش الإسرائيلي عرضة لقذائف المقاومة في غزة.
تمكنت المقاومة الفلسطينية من استخدام وسائل متعددة حيدت منظومة تروفي وتمكنت من تحقيق إصابات بالمدرعات الإسرائيلية / صورة: TRT عربي (TRT عربي)

بشكل متكرر تعلو صرخة "ولّعت.. ولّعت" في شوارع وحواري غزة الضيقة، لتعلن أن "كاسر الريح" قد فشل مجدداً في إحكام درعه بشكل كافٍ كي يمنع قذيفة ترادفية من بلوغ مبتغاها وتمزيق بدن دبابة أو ناقلة جند إسرائيلية مخلِّفة مصابين وقتلى يجلسون في ما يُفترض أن يكون حصناً منيعاً، محوِّلة إياه إلى نعش معدني متنقِّل.

اكتسبت منظومة "تروفي" (التسمية العبرية للمنظومة هي كاسر الريح) سُمعة إعلامية فخمة، كمنظومة الدفاع النشط الوحيدة المجربة في ميدان القتال، هذا ما دأبت على ذكره جميع المواد الترويجية التي تنشرها شركة "رافاييل" المسؤولة عن تصنيع المنظومة وتسويقها.

ويعتبر هذا العامل نقطة جوهرية تعتمد عليها شركات التقنيات العسكرية من أجل إقناع الزبائن المحتملين بكفاءة المنظومة وقدرتها على تقديم مستويات حماية عالية تضمن أرواح الجنود وتقلل فاتورة الإصابات، مما يجعل اتخاذ قرار الانخراط في عمليات قتال متلاحم أسهل على القيادات العسكرية.

لكن هذا الترويج ذا الأهداف التجارية والتسويقية يتضخم مع الوقت ليصبح حملة أكبر، هدفها نشر سردية تفوُّق تسهم في فرض الردع ومنع الخصوم من الانخراط في الهجوم على قواتها، التي تمتلك هذه التقنيات، من منطلق أنه لا جدوى من القتال إذا كان الطرف الأقوى يملك من الأدوات ما يجعل كل الأسلحة المتاحة غير فعالٍ، ويصبح وقتها الانخراط معه في قتال أقرب ما يكون إلى الانتحار، لكن هل تصمد هذه السردية على أرض الواقع وفي الظروف الحقيقية لميدان القتال؟

السيف مقابل الدرع

في التاريخ الطويل من صراع الدرع مع السيف حاول صانعو الدبابات والعربات القتالية زيادة مستوى حمايتها من خلال زيادة صلابة الدروع المركَّبة على بدنها، لكن هذا الإجراء وصل إلى مرحلة غير عملية، فزيادة الدروع تؤدي إلى تضخم وزن الدبابة وجعلها بطيئة سيئة المناورة وعُرضة للغرق في التضاريس الرخوة.

هذا ما دفع المهندسين إلى البحث عن طرق أخرى تزيد مستويات بقاء المدرعات في أرض القتال، وهنا بدأ اللجوء إلى منظومات القتل اللين (Soft Kill) والقتل الخشن (Hard kill) لمواجهة مختلف أنواع الذخائر والقذائف التي صُمّمت للقضاء على المدرعات. بينما يعتمد القتل اللين على منظومات تشويش وإعماء، تحاول حرْف القذيفة المهاجمة عن مسارها أو إخفاء مكان الدبابة باستخدام الدخان أو الأشعة تحت الحمراء، تلجأ أنظمة القتل الخشن إلى إطلاق قذيفة أو شحنة مضادة تعمل على التصدي للقذيفة المهاجمة وتدميرها قبل الوصول إلى بدن المدرعة.

تعود أولى محاولات تطوير الأنظمة المشابهة إلى مكتب التصميم السوفييتي (KBP)، الذي عمل منذ 1977 على منظومة (Drozd) التي جرى استخدامها بشكل محدود في الحرب الأفغانية، يليها بدء تطوير منظومة (AWiSS) من طرف شركة ديهل الألمانية سنة 1993، إذ كان ما حققته من نتائج دافعاً لشركة الصناعات الإسرائيلية (IAI) كي تطلب الدخول في مشروع مشترك كان ثمرته تصنيع أول منظومة دفاع نشط إسرائيلية سُمِّيت "القبضة الحديدية" التي أُعلن عنها سنة 2006.

التجارب الناجحة لمنظومة القبضة الحديدية دفعت نحو تطوير منظومة "تروفي" باعتبارها نسخة أكثر بساطة وأقل تكلفة، متجاوزة بعض مشكلات سابقتها، مع التنازل عن بعض الميزات.

كيف تعمل منظومة "تروفي"؟

تتكون المنظومة من أربع رادارات مثبتة على أطراف برج الدبابة في حالة "ميركافا"، أو على أطراف البدن في حالة ناقلات الجند مثل "نامير"، هذه الرادارات المرتبطة بحاسوب مركزي تعمل، حين تنشيطها، على مراقبة المحيط بزاوية 360 أفقيّاً والبحث عن أي هدف سريع متوجه نحو بدن المدرعة، ثم تحديد اتجاهه وسرعته وحساب مساره حتى تحدد احتمال كونه هدفاً يجب التعامل معه أو تجاهله.

وفي حالة تصنيفه خطراً يُعطي الحاسوب المركزي الأوامر لواحد من منصتي الاعتراض المُركَّبتَيْن على جوانب المدرعة كي تستدير مواجهةً الهدف وتفجِّر شحنة مكوِّنة سحابة من الشظايا السريعة التي تعترض الهدف وتفجِّره قبل الوصول وملامسة بدن المدرعة.

في أثناء التجارب حققت منظومة "تروفي" كفاءة معتبرة في التصدي لمختلف أنواع القذائف والذخائر، بدءاً من "RPG" المحمولة كتفاً بمختلف نسخها، وانتهاءً بالصواريخ المضادة للدروع الموجَّهة عن بُعد، مثل الكورنيت الروسي، بل كانت لحظة الشهرة لمنظومة تروفي سنة 2014 حين ظهر في إحدى المواد الإعلامية التي نشرتها المقاومة اعتراض صاروخ من طراز كورنيت كان يستهدف دبابة ميركافا تقف على تخوم شمال قطاع غزة.

إذا كانت النتائج السابقة تشير إلى نجاح المنظومة، فأين الخلل؟

الميدان الذي يكذِّب الغطاس

رغم المحاولات الحثيثة للإسرائيليين من أجل إخفاء أي أداء سلبي للمنظومة، لكن متابعة المواد الإعلامية للفصائل المسلحة في غزة، بالإضافة إلى تحاليل يقدمها خبراء مستقلون وناشطون في مجال المعلومات مفتوحة المصدر، توضح ثغرات وأخطاء استراتيجية تقوِّض الهالة السحرية التي اكتسبتها المنظومة، وفي النقاط التالية ذكرٌ لأهمها:

جرى بناء نظام "تروفي" بالأساس لمواجهة القذائف الموجَّهة المضادة للدروع، وكان التركيز الأساسي لمصممي ومهندسي المنظومة هو مواجهة هذا النوع من التهديدات، على اعتبار أن الخصم سيحاول استهداف المدرعات من مسافات بعيدة، وهذا سيعطي الوقت الكافي للمنظومة كي تتفاعل وتواجه التهديد.

لكن الجانب الآخر من المواجهة كان أيضاً يؤدي واجبه المنزلي جيداً، وبشكل متكرر كانت الفصائل المسلحة في غزة تنشر موادَّ إعلامية لتدريبات يظهر فيها التفاعل من مسافات قريبة مع مجسمات لدبابة ميركافا، الهدف الرئيسي من تدريب مشابه هو تعويد المقاتلين على شكل الدبابة وحجمها وتعرف نقاط الاستهداف الضعيفة سريعاً، وقتها كانت تبدو تلك التدريبات مجرد لقطات بروباغندا تنفذها فصائل ضعيفة التسليح، ولم يكن من السهل تصديق أن هذا التكتيك سيكون هو نمط الالتحام الرئيسي في مشاهد القتال الحالية.

بشكل متعمَّد، عملت الفصائل المسلحة على جر القتال إلى مساحات داخل الكتل السكنية المكتظة، خصوصاً في مناطق المخيمات ذات الشوارع الضيقة، هذا التكتيك كان عاملاً حاسماً في حرمان منظومة تروفي من المساحة اللازمة لكشف التهديدات والتعامل معها.

بشكل متكرر يطلق المقاتلون قذائفهم من مسافات تتراوح بين 20 و50 متراً، وهي مسافة غير كافية كي يحسب الرادار مسار القذيفة ويعطي أمر الاشتباك لمنصة الاعتراض، بل يتعمد المقاتلون في حالات كثيرة استخدام الشوارع والأشجار والحوائط سواترَ يطلقون قذائفهم من خلالها بشكل يجعل اكتشاف الرادار التهديد القادم صعباً جدّاً أو غير ممكن.

تكتيك آخر تعلَّمه المقاتلون، ربما هو أحد دروس الحرب الأوكرانية الروسية، وهو استغلال الطائرات المسيَّرة باعتبارها منصات إطلاق لإسقاط القذائف الترادفية بشكل عمودي على سقف الدبابة، وهذه المساحة لا يمكن لمنظومة تروفي تغطيتها وحمايتها في ما يشبه منطقة "صلعاء" مكشوفة تعتبر أقل الأجزاء تدريعاً في بدن العربات القتالية والدبابات.

هذه الثغرة الخطيرة دفعت وحدات الفرق المدرعة في الجيش الإسرائيلي إلى اعتماد حلول ارتجالية وبدائية تمثلت في تركيب شبكة معدنية تعوَّد المغردون الساخرون تسميتها "خُم الدجاج"، في محاولة لحماية جزء من سقف الدبابة من هجمات مشابهة.

مشكلة أخرى عميقة يسببها استخدام منظومة تروفي، هو تأثيرها السلبي في وجود الجنود المشاة المرافقين للمدرعات، ففي تشكيلات القتال التقليدية تتحرك المدرعات والدبابات يرافقها عدد من الجنود المشاة يعملون على أرض الميدان بشكل متكامل، تتكفل الدبابة بتوفير القوة النارية الكثيفة وتدمير الأهداف الصُّلبة، بينما يمشِّط المشاة المرافقون المباني والشوارع وتحييد مقاتلي الخصم الذين ينصبون الكمائن ويشنون هجمات خاطفة. في وجود منظومة تروفي يصبح استعمال هذا النسق خطيراً جدّاً، ففي حالة استعمال منصة اعتراض تروفي لمواجهة القذائف التي تتوجه نحو الدبابة، فإن الشظايا الناتجة عنها ستمزق أجساد قوات المشاة المحيطة بالدبابة وتسبب إصابات خطيرة، وربما الموت، هذا التأثير جعل طاقم الدبابة في كثير من الأحيان يطفئ أو يغلق المنظومة في حالة وجود قوات مشاة مرافقة مما يجعلها حملاً إضافيّاً من دون فائدة.

إحدى سلبيات تصميم قاذف الاعتراض في منظومة تروفي أيضاً هو اعتماده على نظام إعادة تذخير أوتوماتيكي يركِّب مقذوفاً جديداً بعد كل استهداف، ورغم كون هذا الميكانيزم سريعاً، إذ ينفذ عملية التغيير خلال وقت يقارب 1.5 ثانية حسب ما يظهر في الفيديوهات الترويجية، فإن هذا الوقت يكفي كي يستغله المقاتلون من أجل إطلاق قذيفة ثانية تلحق بالأولى وتصل إلى بدن المدرعة من دون اعتراض.

هذا مع الأخذ في عين الاعتبار أن مخزن مقذوفات الاعتراض يحمل 3 ذخائر فقط، وفي حالة نفادها يحتاج أحد أفراد الطاقم إلى الخروج وإعادة تذخيرها يدويّاً، مما يعرضه هو والدبابة لخطر الاستهداف في أرض المعركة النشط، أو استكمال القتال من دون إعادة تذخير، مما يجعل أحد القاذفَين خارج الخدمة. كما يحرمه هذا التصميم من إمكانية الإطلاق المتزامن والتصدي لتهديدات متعددة كما الحال مع منظومات أخرى مشابهة.

نقطة أخيرة يجدر الإشارة إليها، وهي ارتفاع سعر منظومة تروفي، فتركيب وحدة منها على دبابة مثل الميركافا يكلف من 800 ألف إلى مليون دولار أمريكي، وهو يشكل ما يقارب 30% من تكلفة صناعة الدبابة، كما يمثل وزنها البالغ 820 كيلوجراماً حمولة معتبرة تؤثر في الوزن الإجمالي، الثقيل أصلاً، وتزيد استهلاك الطاقة.

كل ما سبق ذكره من الثغرات يوضح بشكل لا لبس فيه أن القدرات الأسطورية للمنظومة المروَّجة بكثافة بعيدة كل البُعد عن حقيقة الأداء الميداني في الواقع ذي الظروف المعقدة والسيناريوهات المختلفة، فالخصوم يتعلمون بسرعة ويتأقلمون بشكل مرن مع معطيات الميدان بشكل يتجاوز قدرة الشركات المسؤولة عن تصنيع أنظمة مشابهة على توقع طبيعة الثغرات التي من الممكن استغلالها.

الحرب ميدان تسويق

لقد جرت العادة أن تستغل الشركات الدفاعية الإسرائيلية الحروب والمناوشات المتكررة من أجل بناء رصيد من حالات النجاح تستخدمها لاحقاً في فترات الهدوء لتسويق منتجاتها لدول وجيوش أخرى.

وبسبب طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي والبنية الصناعية بالتحديد يصعب على الشركات الدفاعية الإسرائيلية تنفيذ هذه المشاريع محليّاً بشكل كامل ومنفرد، وحصر عمليات البيع لصالح الزبون المحلي المتمثل في الجيش، بل تسعى لتسويقها إلى حلفائها، وهذا ما نجحت في فعله مع جيوش دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا، إذ جرى العمل على إدماج منظومة تروفي في دبابات القتال والمدرعات التي تنتجها هذه الدول.

وجرى الترويج بشكل مكثف وواسع من أجل نجاح هذه الشراكة وضمان عقود بيع مستمرة تضمن أرباحاً ووجوداً في أسواق خارجية، كما تحافظ على السمعة التي تحرص إسرائيل على بنائها من ناحية كونها حاضنة لمشاريع مبتكرة وشركات عالية التقنية. بعد المواجهة التي تدور رحاها الآن في قطاع غزة، وبعد الاختبارات المتكررة للمنظومة، وتكرار حالات فشلها، قد تكون العقود سابقة الذكر محل إعادة نظر وتفكير، وسيقل الحماس تجاه استخدام هذه المنظومة بشكل واسع من جيوش الدول التي انخرطت في صفقات اقتناء تروفي والاشتراك في تصنيعها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي