تابعنا
لم يتمكن الجنرال الفرنسي شارل ديغول قبل 62 عاماً من وقف ثورة التحرير الجزائرية. فعلى الرغم من كل المغريات الاقتصادية التي وظفها ديغول حينها، نجح الجزائريون في النهاية بافتكاك حريتهم.

''إن الوقت قد حان لإعطاء الفرصة للجزائريين لكي يعبروا بأنفسهم عن مستقبلهم، ويقرروا مصيرهم بأنفسهم''، بينما أنهت كلمات الجنرال الفرنسي شارل ديغول يوم 16 سبتمبر/أيلول 1959 فكرة السيادة الفرنسية والوجود الفرنسي الأبدي في الجزائر، كانت في الوقت ذاته ضربة موجعة لأنصاره ومؤيديه الذين التجؤوا إليه في حربهم على الجزائر، باعتباره أبرز شخصية سياسية وعسكرية فرنسية أرقت عدة دول في الحرب العالمية الثانية وخلصت فرنسا من السطوة النازية.

وإن كان إعلان ديغول تتويجاً لانتصار الشعب الجزائري في ثورته، فإنه أيضاً إعلان لفشل الجنرال الفرنسي في التصدي لها، على الرغم من كل السياسات والاستراتيجيات التي حاكها في ذلك الوقت، وعلى الرغم من كل الحوافز والمغريات الاقتصادية التي استمر في الضخ فيها محاولاً توظيفها لعزل ثورة الشعب الجزائري.

التنمية مقابل وقف الثورة

منذ احتلالها عام 1830 استمرت القوات الفرنسية في استنزاف الثروات الجزائرية من نفط ومعادن وفحم، طيلة عقود لخدمة الاقتصاد الفرنسي، وهجَّرت السكان الأصليين وافتكت أراضيهم، ونكلت بالمدنيين وأسقطت العديد من القتلى.

وبينما تمتد آلة البطش والاجتثاث الفرنسي في حق أبناء الشعب الفرنسي اندلعت شرارة ثورة التحرير الجزائرية عام 1954، وانضم إلى صفوفها عدد كبير من المقاومين والمناضلين في أغلب المدن الجزائرية، واستمرت المواجهات المسلحة مع قوات الاحتلال الفرنسي فترة طويلة، كبَّدته الكثير من الخسائر البشرية والاقتصادية.

وخشية خسارة واحدة من أهم المستعمرات الفرنسية التجأ المعمرون والضباط الفرنسيون إلى شارل ديغول الذي سطع نجمه في ذلك الوقت بالمجتمع الأوروبي والفرنسي ليطوق الثورة الجزائرية ويبسط السيطرة على الجزائر بوصفها أرضاً فرنسية.

وبعد أن تمكن ديغول من العودة إلى الحكم مجدداً عام 1958 عقب انقلاب عسكري كانت القضية الجزائرية حينها تقف على رأس قائمة القضايا والملفات العالقة التي يجب إيجاد حلول عاجلة لها، بخاصة أن لهيب ثورة التحرير بدأ يمتد إلى كل المناطق والمدن الجزائرية، مكتسباً زخماً وتأييداً دولياً.

ولكن تصور ديغول في الوصول إلى حل في الجزائر كان يختلف عن مناصريه الذين دفعوا به إلى الحكم. فقد كان الجنرال الفرنسي يعي تماماً أن الثورة الجزائرية أصبحت تلقى دعماً في المحافل الدولية وتأييداً من الأمم المتحدة، وذلك منذ مؤتمر باندونغ إندونيسيا عام 1955 وخلال المؤتمرات الآفرو آسيوية. لذلك فكر ديغول في توظيف العامل الاقتصادي مناورةً لعزل الثورة الجزائرية.

وخلال أول زيارة ميدانية له إلى المدن الجزائرية التي شهدت مواجهات واحتجاجات وعقب التقائه السكان، وإلقائه خطاباً يعبر فيه عن توجهاته الجديدة للإصلاح والتغيير، أعلن ديغول يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 1958 في مدينة قسنطينة مركز ثقل الثورة عن "مشروع قسنطينة" الاقتصادي، ومخططه بتوزيع نحو ربع مليون هكتار من الأراضي الزراعية على الفلاحين، وبناء ربع مليون مسكن جديد، وبناء مشاريع توفر آلاف مواطن الشغل للجزائريين.

وكثفت منذ ذلك الحين عمليات البناء والإعمار وتشييد المباني والمشاريع التنموية في عدة مدن جزائرية.

وعلى الرغم مما أنجزه من إصلاحات اقتصادية وما قدمه من مغريات وحوافز فشل ديغول في إخماد شرارة الثورة التي احتدت وتيرة المواجهات فيها مع قوات الاستعمار الفرنسي في كل المناطق مخلفةً آلاف القتلى.

فلم يكن الشعب الجزائري حينها في حاجة إلى التنمية أو الأموال والمشاريع ولم يرضخ للابتزاز الاقتصادي لشارل ديغول على الرغم من الظروف السيئة التي يكابدها، بل استمات في ثورته إلى آخر لحظة سعياً لنيل حريته.

فتوجه ديغول بعد أن فشل مخططه الاقتصادي ومناورته السياسية إلى رفع معدل التجنيد في صفوف الجيش الفرنسي وطلب الدعم الدولي لتطويق الثوار ودك معاقلهم. إلا أن الخيار العسكري فشل بدوره، في وقت كانت تعصف بفرنسا أزمة سياسية واقتصادية حادة، فدخل ديغول إثر ذلك في سلسلة مفاوضات مع الثوار والمقاومين الجزائريين انتهت بخطابه الشهير عام 1959 الذي أعلن فيه حق الجزائريين في تقرير مصيرهم بأنفسهم.

ديغول يفقد شعبيته ومؤيديه

كان إعلان ديغول صادماً لقادة الجيش الفرنسي والمستوطنين الذين تعالت أصواتهم حينها باتهامه بخيانتهم بعد أن كانوا سبباً في عودته إلى السلطة من جديد.

واعتبر الفرنسيون أن شارل ديغول خذلهم وسدد إليهم ضربة موجعة، ولم يكن إعلان حق تقرير المصير للجزائريين إلا دليل على فشل سياسته بالنسبة إليهم ودلالة على ضعفها، وأن هذا القرار سيمهد الطريق لتسليم الجزائر أحد أهم المستوطنات الفرنسية بالمجان لجبهة التحرير الوطني.

وتصاعدت موجة الغضب والاستياء من ديغول في الأوساط السياسية والعسكرية في فرنسا، حتى جرى التخطيط في أكثر من مرة لمحاولة انقلاب ضده، إلا أنه تمكن من إفشالها والتصدي لها.

TRT عربي