في عالم العملات المشفرة، تعتبر "بينانس" (Binance) منذ فترة طويلة عملاقاً شاهقاً، إذ توفر منصة للمتداولين والمستثمرين للوصول إلى عديد من الأصول الرقمية. ومع ذلك، ألقت الأحداث الأخيرة والتحديات التنظيمية بظلال من عدم اليقين بشأن مستقبل بورصة العملات المشفرة هذه.
وعلى وقع انهيار منصة FTX في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، خرج المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لمنصة "بينانس" تشانغ بينغ تشاو، الذي بدا حينها أنه تربع على عرش منصات تداول العملات الرقمي، وقال: "المشاريع التي ستنجو من هذا الوقت العصيب ستكون أقوى بكثير في وقت لاحق".
ولم ينقضِ عام واحد على هذا التصريح، حتى باتت "بينانس" تواجه محنة هي الأخرى. إذ قالت وول ستريت جورنال إن إمبراطورية "بينانس" تتعرض حالياً لهزة قوية بسبب بعض الأحكام القضائية الأمريكية، فعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، غادر أكثر من عشرة من كبار المسؤولين التنفيذيين، وسرحت البورصة ما لا يقل عن 1500 موظف، هذا العام، لخفض التكاليف والاستعداد لانخفاض الأعمال.
السؤال الذي يلوح في الأفق في مجتمع العملات المشفرة الآن هو ما إذا كان من الممكن أن تنهار منصة "بينانس"، مع نظامها البيئي الواسع، وتؤدي إلى انهيار سوق العملات المشفرة بأكمله.
هل تنهار منصة "بينانس"؟
تأسست "بينانس" في عام 2017 على يد تشانغ بينغ تشاو، وسرعان ما صعدت إلى قمة عالم تبادل العملات المشفرة. واجهتها سهلة الاستخدام وتوفيرها لمجموعة واسعة من العملات المشفرة، فضلاً عن رسوم التداول التنافسية جعلتها المفضلة لدى المتداولين والمستثمرين في جميع أنحاء العالم. قدمت المنصة أيضاً عملتها المشفرة الأصلية، (Binance Coin BNB)، التي لعبت دوراً محورياً في نمو البورصة.
على الرغم من كونها أكبر بورصة للعملات المشفرة في العالم، إذ يبلغ حجم التداول اليومي أكثر من 50 مليار دولار ويستخدمها أكثر من 100 مليون مستخدم، واجهت منصة "بينانس" سلسلة من العقبات التنظيمية في السنوات الأخيرة. وأعربت الحكومات والهيئات التنظيمية من مختلف البلدان عن مخاوفها بشأن عمليات البورصة، وبخاصة فيما يتعلق بمكافحة غسل الأموال (AML) وامتثال عميلك (KYC).
وبينما لا تزال منصة "بينانس" هي المسيطرة في مجال العملات المشفرة، فإن هيمنتها تتضاءل، حسب وول ستريت جورنال. وقالت الصحيفة إن المنصة تتعامل الآن مع نحو نصف جميع المعاملات التي يجري فيها شراء وبيع العملات المشفرة بشكل مباشر، بانخفاض من نحو 70% في بداية العام، وفقاً لمزود البيانات (Kaiko).
وفي حين أن أسعار العملات المشفرة الرئيسية مثل البيتكوين استقرت بالقيمة الدولارية بعد انهيار FTX، فقد واجهت منصة "بينانس" صعوبات. حجمها الكبير يعني أنها أصبحت هدفاً واضحاً للمنظمين والمشرعين الذين يسعون لضمان عدم تلوث الأسواق المالية الأوسع أبداً ببورصة العملات المشفرة التي أصبحت "أكبر من أن تفشل"، حسبما قالت فايننشال تايمز.
تأثير الدومينو
إلى جانب الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها "بينانس" من الجهات التشريعية بالولايات المتحدة، منع بعض الدول في أوقات سابقة، بما في ذلك اليابان والمملكة المتحدة، المنصة تقديم خدماتها لمواطنيها تماماً. وأصدر آخرون تحذيرات أو بدأوا تحقيقات في أنشطة البورصة. وقد أدت هذه التحديات التنظيمية إلى انكماش عمليات "بينانس" في عديد من الأسواق الرئيسية، مما أثار تساؤلات حول استدامة نموذج أعمالها.
الأمر الذي دفع الخبراء إلى التحذير من أن ما يحدث لـ"بينانس" سيكون له آثار هائلة على العملات المشفرة لأن هذه البورصة كبيرة جداً. وذلك على الرغم من تأكيدهم أن البورصات الأخرى ستملأ الفراغ إذا انهارت منصة "بينانس" على المدى القصير، وفقاً لـوول ستريت جورنال.
في الوقت ذاته، حذر مراقبو السوق الرقمية من أن تنكمش السيولة في السوق، ما قد يؤدي إلى انخفاض أسعار العملات المشفرة بشكل حاد. لا سيّما وأن أحد المخاوف الرئيسية في مجال العملات المشفرة هو احتمال حدوث "تأثير الدومينو" إذ يمكن أن تؤدي الحملات التنظيمية على المنصات الرئيسية مثل "بينانس" إلى انهيار السوق على نطاق أوسع. إن الطبيعة المترابطة للنظام البيئي للعملات المشفرة تعني أن أي انقطاع كبير في منصة واحدة يمكن أن يؤثر في الصناعة بأكملها.
شتاء العملات الرقمية
وعلى وقع العواصف العاتية التي تعصف في أروقة "بينانس"، يرى البعض أن العملات الرقمية ينتظرها شتاء قاسي. حيث تُعرف العملات المشفرة بتقلباتها، وأي أخبار سلبية أو إجراءات تنظيمية يمكن أن تؤدي إلى البيع بدافع الذعر، فإذا واجهت منصة "بينانس" حملة تنظيمية شديدة أو إغلاقاً قسرياً، فقد يتسبب ذلك في سلسلة من ردود الفعل من البيع الذعر عبر عديد من العملات المشفرة، مما يؤدي إلى انهيار على مستوى السوق.
وفي حين اتخذت البورصة خطوات لمعالجة المخاوف التنظيمية، فإنها لا تزال تواجه تحديات قضائية كبيرة في مختلف البلدان. أما سوق العملات الرقمية الأوسع، فمن الضروري إدراك أن الصناعة قد نضجت بشكل كبير منذ الأيام الأولى. في حين أن انهيار "بينانس" سيؤدي بلا شك إلى اضطرابات وتقلبات على المدى القصير، إلا أن السوق قد تكون أكثر مرونة مما كانت عليه في الماضي كما يرى الخبراء.
على صعيد آخر، يتوقع البعض أن سباق Bull Run المتوقع لعام 2024 سيقدم موجات كبيرة في ساحة العملات المشفرة، مع ظهور صندوق (Bitcoin ETF) التابع لشركة (BlackRock) لاعباً محورياً. ومن المتوقع أن يؤدي دخول هذا العملاق المالي إلى العملات المشفرة إلى ضخ رأس مال جديد في عديد من الأصول الرقمية، بما في ذلك البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى.