تابعنا
نِجارة، بِناء، إصلاح السّيارات، قيادة الطائرات.. مِهنٌ اعتاد الرّجالُ على مُمارستها. لكنّ تطور المجتمعات العربية جعل نَفس المهن اليوم تُمارَسُ بسواعد نسائية.

هناك مهنٌ عديدة ظلّت لوقتٍ طويل حكراً على الرّجال في العالم العربي. لكنّ نساءً كثيرات كسّرن هذه القاعدة، ودخلن هذه المهن بشجاعة منقطعة النظير، منافساتٍ الرّجال، مواجهاتٍ الصعوبات والعقبات، ومثبتاتٍ أنّ النساء قادراتٌ على حمل ثقل الحياة على أكتافهنّ.

إذا كانت النّساء العربيات، بفضل ولوجهنّ إلى التعليم، قد أثبتن ذواتهنّ في مهنٍ كثيرة لم يكن يمارسها في وقتٍ مضى سوى الرجال، مثل الطّب والهندسة والصّحافة وغيرها، فإنّ مهناً كالنّجارة وإصلاح السّيارات وقيادة القطارات والطائرات، لن تكون أبداً صعبةً بالنّسبة إليهنّ، ما دُمن اليوم يحملن على عاتقهنّ مسؤولية عوْل عائلاتهنّ وأطفالهنّ.

منهنّ من اضطرّتها الظّروف إلى ممارسة هذه المهن، ومنهنّ من دفعتها البطالة وعدم وجود خياراتٍ أخرى إلى ذلك، لكنْ، منهنّ أيضاً من دخلت غمار مهنٍ عُدّت لوقتٍ طويل خاصّةً بالرّجال، حبّاً ورغبةً في إثبات الذّات. تختلفُ الأسباب، لكنّ الوضع واحد: نساءٌ اقتحمن مهناً صعبة، نجحن فيها، بل ونافسن فيها الرّجال، ومن ثمّ أثبتن أنّ المهن لا جنسَ لها.

معركةٌ من أجل المُساواة

من المعروف أنّ مراقبة التذاكر في القطارات كانت دائماً مهنةً خاصّةً بالرّجال في الكثير من بلدان العالم العربي. في المغرب، بدأت شركة القطارات ONCF منذ سنواتٍ قليلة بإدخال النّساء إلى هذا المجال. فتياتٌ كثيرات تقدّمن للاشتغال كمراقبات تذاكر، وأثبتن أنّ هذه المهنة مناسبةٌ للنّساء أيضاً.

مراقبة التذاكر في القطارات كانت دائماً مهنةً حكراً على الرّجال في الكثير من بلدان العالم العربي وفي المغرب بدأت شركة القطارات منذ سنواتٍ قليلة بإدخال النّساء إلى هذا المجال.

من بين هذه النساء زينب ابن حقّي، شابّةٌ عشرينية، قرّرت الالتحاق بالشركة، من أجل تحقيق استقلاليتها المادّية.

تتوجّه زينب إلى عملِها كلّ صباح بنشاط وفخر وأملٍ أيضاً. فعلى الرّغم من أنّها ترى أنّ النّاس لم يعتادوا بعدُ على رؤية النّساء في مهنٍ كهذه، إلّا أنّها تدعو النّساء إلى الصّبر، "لأنّ تقبّل المجتمع لهنّ سيحتاج إلى بعض الوقت"، تقول زينب لـTRT عربي.

زينب واحدةٌ من 15 امرأة تمارس نفسَ المهنة في المغرب اليوم. وهي تُراقب التذاكر منذ حوالي سنتين، مواجهةً نظرة الكثيرين ممّن "يحتقرون النّساء" على حدّ تعبيرها. في هذا السّياق، تضيف "في بعض الأحيان، أشعر أنّ الرّكاب ينظرون إليّ بطريقةٍ غريبة، وهناك البعضُ ممّن يركبون القطار بدون تذكرة، وعندما أطلب منهم الدّفع، يرفضون، عكس ما يفعلونه عندما يكون المراقبُ رجلاً".

على الرغم من ذلك، تصرّ زينب على الاستمرار في عملِها، مؤكّدةً أنّ "هذه أوّل معركةٍ للنّساء من أجل مواكبة تطوّر المجتمعات وتحقيق المساواة".

النِّجارةُ للنّساء أيضاً

مروة (اسم مستعار)، امرأةٌ تتقن تقطيع الخشب وتزيينه وزخرفته. تُبدِع في صنع الكراسي والمنضدات والطاولات... تفعلُ ذلك بتركيزٍ شديد، واهتمامٍ دقيقٍ بالتّفاصيل.

في أحد أحياء القاهرة بمصر، تعيش مروة (45 عاماً)، حيث تملك هي وزوجُها ورشةً للنّجارة. ومنذ حوالي عشر سنوات، قرّرت مروة الاشتغال في هذه الورشة بنفسِها، لولَعِها بهذا المجال الذي ورثته عن والدِها.

عملي لا يُنقِص من أنوثتي شيئاً فأنا أمّ لطفلين وأمارس واجباتي كأمّ وزوجة كما ينبغي وأستطيع الموازنة بين الاثنين.

مروة، نجّارة مصرية

وعلى الرغم من أنّ البلدان العربية لم تعهد نساءً كثيرات يشتغلن في مجالٍ كالنّجارة، فإنّ مروة تؤكّد أنّ الوقت الذي قضته في هذه المهنة، وإتقانها لعملِها، جعل النّاس يعتادونها، والزّبائن يُقبلون عليها بكثرة.

"عملي لا يُنقِص من أنوثتي شيئاً، فأنا أمّ لطفلين، وأمارس واجباتي كأمّ وزوجة كما ينبغي، وأستطيع الموازنة بين الاثنين".

الحلُّ ليتقبّل المجتمع ممارسة النّساء للمهن "الرجالية"، بالنسبة لمروة، هو أن "تقتحم النّساء أكثر فأكثر مثل هذه المجالات، حتى يعتاد المجتمع ذلك"، تؤكّد مروة لـTRT عربي، مضيفةً أنّ "النّساء الآن أصبحن في حاجةٍ إلى العمل، لأنّ المجتمع تغيّر، والمسؤوليات ازدادت، والعمل ليس متوفّراً دائماً".

فتاةُ الميكانيك

بالنّسبة لأمينة، لم يكن العملُ كميكانيكية خياراً بقدر ما كان نتيجةً لظروفٍ صعبة وضعتها أمام هذه المهنة "الرجالية" بامتياز. فهذه الشابّة التونسية ذات الثلاثين ربيعاً، هي كُبرى إخوتها، والعائلةُ الوحيدة لهم.

بعد وفاة والدها، اضطرّت أمينة إلى البحث عن أيّ عملٍ يضمن لها ولعائلتها العيش الكريم. "لم أكن أفكّر في طبيعة العمل الذي سأدخل غماره، بقدر ما كُنت أفكّر في إيجاد هذا العمل نفسِه. باختصار، لم تكن لديّ شروطٌ معيّنة. الحاجة تفرض عليك أحياناً أن تفعل أيّ شيء من أجل أن تحيا"، تقول أمينة في حديثها لـTRT عربي.

نظراتُ استنكارٍ كثيرة تتابعني يومياً سواء من النّاس الذين أعرفهم أو الذين لا أعرفهم لأنّهم لم يروا امرأةً ميكانيكية في حياتهم.

أمينة، ميكانيكية تونسية

تعلّمت أمينة، التي تقطن في محافظة قابس جنوبي تونس، أصول مهنة الميكانيكي عن والدِها حينما كان على قيد الحياة. كانت تراقبه دائماً وتُحاول تقليد ما يفعله. عندما رَحل عن الحياة، قرّرت أن تُعيد فتح ورشته، وبخاصّةً أنّها كانت المصدر الوحيد للرزق بالنسبة للعائلة.

من الصّعوبات التي تواجه أمينة في عملها أنّ "هذا المجال رجاليّ بامتياز، أي إنّه يفرض عليك التعاطي في غالب الأحيان مع الرّجال، سواء كانوا عاملين أو زبائن"، تقولُ بحزن. وتضيف بنفس النّبرة "بالإضافة إلى ذلك، لا يمكنني أن أنكر أنّ نظرات استنكارٍ كثيرة تتابعني يومياً، سواء من النّاس الذين أعرفهم أو الذين لا أعرفهم، السّببُ أنّهم لم يروا امرأةً ميكانيكية في حياتهم".

ومع ذلك، لا تفكّر أمينة أبداً في ترك هذه المهنة، ما دامت مصدر الرّزق بالنسبة لها ولعائلتها، وما دام الأهمّ بالنّسبة لها، هو كسبُ قوت العيش بالحلال.

ومهما اختلفت الظّروف، وتفاوتت الخيارات والميول، ومهما كان عددُ النّساء اللواتي دخلن مهناً "رجالية" قليلاً، فإنّ اقتحامهنّ هذه المجالات، أثبت قدرتهنّ على مجاراة الرّجال، والسّير معهم جنباً إلى جنب على قدم المساواة، ما دام العملُ لا يتطلّب سوى الحبّ والموهبة والتمرين والإرادة.

TRT عربي