تابعنا
حتى بعد مضيّ نصف عام على اندلاع حراك الجزائر، غير أنّ حشود المتظاهرين ما زالت تتدفق كل جمعة في العاصمة وجميع المحافظات، مطالبة بـ"جزائر حرّة وديمقراطية".

"مكانش الخامسة يا اولاد فرنسا"، شعار صدحت به حناجر ملايين الجزائريين يوم الجمعة 22 فبراير من العام الجاري، في مظاهرات عارمة، رافضين تمديد عهدة الرئيس بوتفليقة، مطالبين بتنحّيه عن الحكم ورحيل رموز نظامه.

بعد أسابيع قليلة من ضغط الشارع، مال الجيش "مضطرّاً" إلى جهة الشعب، أفضى ذلك إلى تنحي بوتفليقة من منصبه عبر رسالة استقالة قدّمها للمجلس الدستوري، تلتها سلسلة متابعات قضائية طالت جنرالات ومسؤولين ورجال أعمال.

ولم يتوقف نبض الحراك عند حدود هذه المكتسبات المحقَّقة، إذ استحال الشارع إلى فاعل أساسي في رسم المشهد المستقبلي للجزائر بتفاعله المستمرّ مع المبادرات الرامية إلى الحل، كان معظمها يواجه رفضاً شعبيّاً.

لَإنْ مضى نصف عام على اندلاع حراك الجزائر، فإن حشود المتظاهرين ما زالت تتدفق كل جمعة في العاصمة وجميع المحافظات، مصمّمين على الذهاب نحو "جزائر حرة ديمقراطية" بمواصفات "مدنية لا عسكرية".

تصوُّرات متفاوتة

وظل المشهد طوال هذه الفترة في حالة شَد وجذب بين المؤسسات العسكرية الممسكة بزمام قيادة البلاد من وراء الستار والمتظاهرين، نتيجة تباين واختلاف الرؤى بينهما حول مخرجات الأزمة القائمة.

قيادة الجيش عبّرَت على لسان قائد أركان الجيش نائب وزير الدفاع الفريق القايد صالح، في أكثر من مناسبة، عن أنها مع ضرورة إجراء انتخابات رئاسية في أقرب الآجال، رافضة كل المبادرات، المرحلة الانتقالية والمجلس التأسيسي.

وتوجست المؤسسة العسكرية من المبادرات لكونها تطيل من عمر الأزمة وتفضي إلى نتائج تقود البلاد إلى مصير مجهول، في حين أن تسريع إجراء الانتخابات يجنّب الجزائر الدخول في فراغ مؤسساتي.

بينما تمسك المتظاهرون بمطلب إقالة الحكومة الحالية وأن تخلفها حكومة كفاءات وطنية نظيفة، بالموازاة مع العمل على تأسيس لجنة مستقلة لتنظيم وإشراف ومراقبة الانتخابات، قبل المرور إلى انتخابات رئاسية.

وكانت مبرّرات المحتجين أن هذه الحكومة تقودها شخصية تلطخت يدها بمداد التزوير في عهد الرئيس السابق، وأن الضمانة الوحيدة لإجراء انتخابات شفافة تمرّ حتماً باستحداث آلية جديدة مستقلة.

بين هذا وذاك ازدادت الهوة اتساعاً بين الجيش والشعب حول تصوُّراتهما لمعالجة الوضع الحالي، إذ يتشبث قائد الأركان بمواقفه، وفي المقابل يتمسك الجزائريون بمواصلة الحراك حتى تحقيق المطالب.

إنجاز وإخفاق

وفي منظور الباحث في العلوم السياسية عادل أورابح أن إنجازات الحراك كثيرة بدءاً بإسقاط العهدة الخامسة وإسقاط موعدين رئاسيين وإبطال مفعول كل مناورات السلطة الرامية إلى تجديد الواجهة واستمرار النظام.

ويتصور أن الحراك السلمي لم يحقّق كل مطالبه طبعاً، لأنه لو حصل ذلك لعاد المتظاهرون إلى منازلهم، فالمطلب الأساسي للحراك هو التغيير الجذري للنظام وممارساته.

وفي معرض حديثه مع TRT عربي يقول أورابح إن السلطة الفعلية تسعى للالتفاف حوله وحصره في تنظيم استحقاق رئاسي في أسرع وقت، علماً أن الانتخابات لم تكُن قط آلية للتداول السلمي وإنما آلية لاستقطاب زبائنية جديدة.

ويعتقد أن استمرار بعض رموز النظام السابق بشقيه المدني والعسكري في ممارسة الحكم ستعطّل أي حلّ محتمَل للأزمة، كما أنه ضُيّع وقت ثمين بحجة التشبُّث بالموانع الدستورية.

وأوضح أن الدستور اختُرق بشكل منتظم من خلال عدة تعيينات في مناصب سامية لا يتيحها الدستور الحالي لرئيس الدولة، وكان من الممكن تقديم تنازلات كافية لتطمين الشعب، لكن هذا لم يحدث للأسف.

وإن اتفق أستاذ العلوم السياسية بشير بودلال مع زميله في الإنجازات فإنه يختلف معه في الإخفاقات، بل يجد مبررات للمؤسسة العسكرية لكونها محور الدولة ومصدر السلطة، يراها أنها تفكّر بجدية في مسار جديد في المرحلة القادمة.

يكمن المسار الجديد، حسب بودلال، في بناء نظام سياسي جديد هجين، عسكري-مدني، في المرحلة الأولى، وصولاً إلى تسليم السلطة للمدنيين في المدى المتوسط.

وفي منظوره أن الحراك رغم كل هذه الإنجازات الكبيرة ما زالت شعلة الشارع متوهجة، دفعته ليطرح مطالب عميقة وجوهرية تتصل بمصدر السلطة والسيادة.

ما مصير الحراك؟

ويبدو أن الأسابيع المقبلة ستكون اختباراً حقيقيّاً لقوة الحراك مع الدخول الاجتماعي، في ظل تباين القراءات حول استرجاع زخمه أو خفوته، بالنظر إلى التضييقات الأمنية على المحتجين.

ويتوقع بودلال في تصريح لـTRT عربي، أن الحراك على وشك إطلاق موجة ثانية بداية سبتمبر بمطالب أقوى وأكثر وضوحاً، مستفيداً من تجارب عربية وإقليمية ودولية.

ورجّح أن الجزائريين سيدخلون بزخم أكبر في حراك منبعث لاسترجاع سيادتهم من مؤسسات وعصب لا تزال تحاول إعادة إنتاج النظام بطرق تقليدية تجاوزها الزمن.

وأشار الباحث إلى أن الحراك الجزائري اكتسب خبرة وثقة وأسقط عامل الخوف وهو على بعد خطوة واحدة من تحقيق نتيجة تاريخية بالمقاييس العربية والإقليمية، وهذا سيكون له تداعيات كبيرة وزلزال جيو-استراتيجي في المنطقة.

وكانت السلطة الفعلية خلال الأشهر الفارطة تراهن على خفوت أصوات المحتجين في شهر رمضان وأشهر الصيف، غير أن المعطيات في الواقع كانت مخالفة لكل تخميناتها.

من هذ المنطلق يشير أورابح إلى أن هناك من يحاول تقليل شأن زخم الحراك بسبب تراجع أعداد المتظاهرين، الذي تبدو أسبابه موضوعية.

وينظر إلى أن قوة الحراك السلمي لا تكمن في العدد فقط، بل في الثبات والاستمرارية بنفس المطالب الجوهرية لمدة تفوق 6 أشهر، وهذا ليس بالأمر الهيّن.

TRT عربي