أصوات عدة تعالت مطالِبةً بكبح جماح الجماعات المسلحة في الشارع العراقي (AFP)
تابعنا

ألقت حادثة اغتيال الخبير الأمني والمحلل الاستراتيجي الدكتور هشام الهاشمي بظلالها القاتمة على الشارع العراقي من شمال البلاد إلى جنوبها، وسببت مزيداً من التوتر والاحتقان والخوف من محاولات لإعادة حالة الانفلات الأمني التي تفتح الباب على مصراعيه أمام الجهات المسلحة التي تمارس عمليات القمع الممنهج بحق كل من يعارض أهواءها أو يحاول الكشف عن صفقات الفساد وعمليات بيع المناصب.

ويعتبر مراقبون عراقيون أن اغتيال الهاشمي يكشف مدى ترهل أجهزة الدولة الأمنية، في ظل سهولة تحرُّك منفذي الجريمة في شوارع بغداد، بخاصة أن التوقيت كان متزامناً مع بدء ساعات حظر التجول، المفروض للحيلولة دون تفشي وباء كورونا، ويضع هؤلاء علامات استفهام كبيرة أمام كيفية تحرك منفذي الجريمة بهذه السهولة، ثم تمكنهم من الانسحاب والعودة من حيث أتوا بالسهولة نفسها، بعد تنفيذ جريمتهم.

أزمة الانفلات الأمني

أصوات عدة تعالت، مطالِبةً بكبح جماح الجماعات المسلحة في الشارع العراقي، وضبطها في إطار سلطة الدولة، وقد طالب نشطاء عراقيون بالكشف عن مرتكبي عمليات اغتيال واختطاف المحللين السياسيين والصحفيين وأصحاب الكفاءات، الأمر الذي عكس انهيار منظومة الأمن العراقية، وتصاعد حالات القمع التي زادت بصورة كبيرة في الأيام الماضية، إذ أوضحت التقارير الاستقصائية إعادة سيناريو القتل بالطرق السابقة قبل أعوام في العاصمة بغداد، وعدة مدن ومحافظات أخرى، منها كربلاء والنجف والناصرية والبصرة.

بهذا الصدد تحدث الخبير الأمني أحمد الشريفي لـTRT عربي قائلاً: "يوجد تخوُّف كبير في العراق من عودة مسلسل الاغتيالات، بسبب ضعف الأداء الحكومي، الذي أدى إلى تراجع الملف الأمني، خصوصاً بعد غياب الحزم في خطة حصر السلاح بيد الدولة، وعدم قدرة الدولة على منع كل الظواهر المسلحة في الشارع".

وتابع الشريفي: "مشكلة اختراق مؤسسات الدولة من قِبل جماعات مسلحة، سيدفع إلى تهجير الشخصيات المهمة وانخفاض مستوى الحريات، لذلك من الضروري أن يوجد تحرك استخباراتي دقيق للكشف عن عصابات الجرائم المنظمة، ومن دون ذلك ستكون الفوضى الأمنية هي الحاكمة".

كما أضاف: "يجب على حكومة مصطفى الكاظمي أن تتعامل مع حالات الاغتيالات بطريقة جريئة، وأن تراقب تحركات الجماعات المسلحة وتعتقل زعماءها، فالحكومة لديها كل المعلومات التي من الممكن أن توصلها إلى الجُناة الذين يمارسون سياسية تكميم الأفواه كي لا تُكشف قضايا الفساد وصفقات بيع السلاح لأجندات خارجية أبرزها إيران".

تصاعد حالات الاغتيال والخطف

المتابعون للشأن العراقي يرون أنّ حوادث القتل تؤكّد مجدداً أهمية بسط سيطرة الدولة ووقف فوضى انتشار السلاح واستخدامه، وضرورة المبادرة في أسرع وقت ممكن إلى تفكيك المليشيات والتنظيمات العسكرية وشبه العسكرية وتمكين الجيش وقوات الأمن من الإمساك بزمام الأمور، وإعادة بناء عقيدة هذه الأجهزة المضطلعة بحماية الدولة والمواطن وتنفيذ القانون على أساس وطني بعيد عن التحزبات السياسية.

وبهذا السياق تحدث المحلل السياسي أحمد الأبيض لـTRT عربي بالقول: "إن الاغتيال السياسي في العراق انطوى في السنوات الأخيرة ودخل في موجة من التعاون الدولي والمحلي لضبط الأمن، لكن تراجعت المحاولات الإقليمية خصوصاً بعد حادثة القصف الأمريكي ومقتل أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني قرب مطار بغداد".

وأضاف الأبيض: "عادت أزمة الاغتيالات من قبل الجهات الإجرامية بعد المهاترات بين الولايات المتحدة وإيران، وهذا دليل على تصفية الحسابات على أرض العراق، وفي الوقت نفسه هذا مؤشر خطير على ضعف الأجهزة الأمنية وارتفاع سلطة الرصاص على سلطة القانون".

كما رأى المحلل السياسي "أن اغتيال شخصيات سياسية وأمنية يوصل رسالة تهديد للحكومة باستمرار المليشيات المتطرفة والعصابات الإجرامية على فرض هيمنتها على مؤسسات الدولة العراقية، وأنها ستقتل كل من يحاول الدفاع عن القضايا الإنسانية الساخنة، وربما ستؤدي هذه الاغتيالات إلى حدوث عمليات تصفية دموية بين الأحزاب الحاكمة" حسب تعبيره.

من جهته تحدث عقيل الموسوي رئيس المفوضية العليا لحقوق الإنسان وقال لـTRT عربي: "سجلنا حالات اختطاف وفقدان قرابة 68 ناشطاً سياسياً وباحثاً اجتماعياً على خلفية الحراك الشعبي، ولكن استمرت موجة اختطاف 6 شخصيات لم تشارك بالتظاهرات، لكنها انتقدت سياسة الدول الخارجية وتدخلها بشؤون العراق.

كما تابع الموسوي: "نتابع مع خلية مكافحة الخطف في وزارة الداخلية جهود الكشف عن مصير المختطفين لإنقاذهم من الجماعات المسلحة المجهولة، لكن هذه العملية تواجه تعقيدات كثيرة بسبب شح المعلومات وتعرُّض المفوضية لضغوطات سياسية".

من المتهم في عمليات الاغتيال؟

لم تكن حالات الاغتيال الأخيرة مفاجئة للشارع العراقي، فأغلب الكفاءات والخبراء ينشطون عبر وسائل الاتصال المختلفة لكشف ملفات سرية تخص مصادرة الدولة العراقية لصالح الفوضى السياسية والأمنية، وقد تسببت عمليات القمع في انتشار الخوف والرعب عند المحللين والكتاب والباحثين، وسط تورط جماعات مسلحة يتزعمها شخصيات تقود المشهد العراقي نحو أزمات كبيرة.

وبخصوص الجهات المتورطة في حوادث الاغتيال، تحدث عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية عباس صروط لـTRT عربي وصّرح قائلاً: "يجب أن نعترف بسيطرة الجماعات المتطرفة على أجهزة الدولة الأمنية، وقد وصل الأمر إلى اغتيال ضباط رفيعي المستوى بمنطقة الطارمية في العاصمة بغداد، إذ أقدمت جماعات إرهابية على التعرض لعجلة العميد الركن علي حميد غيدان آمر اللواء التاسع والخمسين بالفرقة السادسة خلال أدائه الواجب، وأضرمت النيران على عجلته العسكرية وقتلته على الفور".

وتابع صروط: "لا تزال خلايا تنظيم داعش تمارس القتل وتنشط في المناطق النائية، وحادثة اغتيال العميد الركن الأخيرة، تشير إلى فقدان السيطرة واستمرار عمليات القتل من قبل عناصر داعش، لذلك على الحكومة تنفيذ إجراءات حقيقية ضد الإرهابيين، وحماية المواطنين وضبط التحركات العسكرية في البلاد".

من جهته تحدث الخبير القانوني نايف الجبوري لـTRT عربي قائلاً: "إن مسلسل الاغتيالات في العراق دائماً ما يُقيَّد ضد مجهول، وإن جميع اللجان المشكَّلة منذ الغزو الأمريكي لم تفلح في الكشف عن حالات الفساد المستشري أو الجناة في حوادث الاغتيال".

وأضاف الجبوري: "يضم العراق قرابة مليون منتسب إلى الأجهزة الأمنية، وهذا الرقم الكبير لم يفلح في كسب أي تحقيق جنائي، ما يشير إلى الفوضى الأمنية الكبيرة التي يعيشها العراق منذ سنوات، أما الرابط المشترك بين جميع من اغتيلوا هو معارضتهم للتدخلات الخارجية وبخاصة الإيرانية منها، ما أدى إلى اغتيال كتاب ومحللين أمثال سعاد العلي ووسام الغراوي وعلاء مشذوب وغيرهم، كانوا رافضين للوجود الإيراني وانتقدوا بصراحة سيطرة الفصائل المسلحة التابعة للأحزاب الدينية الشيعية".

موقف الحكومة تجاه عمليات التصفية

صرّح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في بيان رسمي بخصوص حالات الاغتيال الأخيرة، وقال: "من تورّط بالدم العراقي سيواجه العدالة ولن نسمح بالفوضى وسياسة المافيا أبداً، ولن نسمح بأن تعود عمليات الاغتيالات ثانية إلى المشهد، لتعكير صفو الأمن والاستقرار".

وحول خطة الحكومة بملاحقة الجُناة، تحدث الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول لـTRT عربي وقال: "إن رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وجّه الجهات الاستخباراتية والقطاعات الأمنية إلى التحرك العاجل للقبض على العناصر الإرهابية التي اغتالت شخصيات مهمة في العراق. ولكن هذه المهمة تواجه ضغوطات خارجية تقف بوجه التحركات العسكرية للدولة وسط إصرار الدولة على فرض القانون ومنع انتشار السلاح".

وتابع رسول: "تحاول الحكومة معالجة المشاكل الأمنية التي نخرت بالدولة طيلة السنوات السابقة، وهذا التراكم الكبير في انهيار المنظومة الاستخباراتية كان سبباً وجيهاً لضعف الأجهزة الأمنية التي تحاول إعادة هيكلة الدولة وضبط السلاح المنتشر بيد جماعات مسلحة تتعامل مع دول خارجية تحاول زعزعة أمن البلاد بهدف تسقيط الحكومة الجديدة وإلقاء تهم الفشل عليها".

وأضاف الناطق باسم القوات المسلحة: "بدأت الحكومة سلسلة إجراءات من شأنها ملاحقة القتلة، أولها إرسال قوات عسكرية خاصة للسيطرة على المنافذ الحدودية، ولدينا معلومات عن جماعات مسلحة غير رسمية تحاول اختراق الدولة، بالتالي سنمضي في تحركاتنا الاستخباراتية لكشف صفقات بيع السلاح وعمليات الاغتيال وسنتعامل بطريقة حازمة مع كل من يهدد أمن البلاد ويثير الرعب في حياة المواطنين".

تقييد الحوادث ضد مجهولين

لا توجد إحصائية دقيقة للاغتيالات والاختطاف في العراق، فالسلطات الرسمية لا توثق الانتهاكات بطريقة دقيقة في ظل تصاعد الإشاعات والاتهامات التي طالت جهات مسلحة تنتمي إلى أحزاب سياسية، بالإضافة إلى عمليات تهديد صحفيين ومعارضين وباحثين سياسيين، الأمر الذي أدى إلى هجرة الكفاءات خارج العراق وارتفاع حالات الانتهاكات والقمع.

وحول الأمر، تحدث محمد رضا آل حيدر رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراق مصرحاً لـTRT عربي قائلاً: "إن اللجنة تستنكر الاغتيالات والاعتداءات التي تطال بعض الناشطين والإعلاميين الوطنيين والمحللين السياسيين، وآخرها استشهاد الهاشمي، وإننا في البرلمان رفعنا وثائق عن الانتهاكات التي تؤكد ضرورة تفعيل الدولة لأجهزتها الاستخباراتية وتعلن أسماء الجُناة والقتلة بطريقة شفافة".

وأضاف آل حيدر: "الحكومة العراقية لديها 7 وكالات استخباراتية، ويجب أن تعمل هذه الوكالات ضمن المناطق بتخفي، لأن المجرمين الذين ينفذون الاغتيالات يعملون بتخفٍّ، أما إذا استمرت الدولة بتصنيف عمليات الاختطاف والقتل ضد مجهولين واتهام الطرف الثالث الذي لا نعرفه، فسيؤدي ذلك إلى انهيار ثقة الشعب وذوي الشهداء بإمكانية الدولة على ملاحقة المتهمين".

من جانبه تحدث الباحث الحقوقي في منظمة فرات لحقوق الإنسان صبري المياحي وكشف لـTRT عربي قائلاً: "عمليات الاغتيال التي تشهدها البلاد تأتي على خلفية سياسية ودينية، لذلك تحاول الدولة تضييع حقوق الشعب وتقييد عمليات القتل والاختطاف ضد مجهولين، لأنها لا تستطيع مواجهة الزعماء الذين يترأسون جماعات مسلحة تأخذ أوامرها من إيران".

وأضاف المياحي: "توجد جهات متشددة ترصد الوسط الثقافي العراقي ونشطاء المجتمع المدني، وتتخذ من الاغتيال وسيلة لإخراس الأوساط الاجتماعية التي بدأت تتململ اعتراضاً على الأوضاع القائمة وما فيها من تقييد للحريات وانتهاك لحقوق الإنسان، وفوق كل هذا وذاك تراجع الخدمات وتغوّل الفساد".

وأشار المياحي إلى أن "مظاهرات بغداد والبصرة والناصرية استنفرت مليشيات إيران، التي استخدمت كتائب الخراساني والنجباء وعناصر حزب الله العراقي من أجل استهداف الناشطين، وتؤكد الوثائق لدينا وصول حالات القتل إلى 21 حالة في 3 شهور واختطاف 78 شاباً من الباحثين والصحفيين والمحللين".

الرعب الذي يعيشه سكان العراق بسبب انتشار السلاح غير الشرعي والمرتبط بالمليشيات، يشكل عائقاً حقيقياً أمام تطبيق القانون وفرض سيادة الدولة، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ورفع سقف الخدمات المتردي، فالعراق يشهد فوضى سياسية في ظل تهديد الأمن الداخلي وابتزاز كل من يدافع عن القضايا الإنسانية، وهذا يضع الحكومة في اختبار صعب أمام الجماعات المسلحة التي تسيطر على مؤسسات الدولة.

TRT عربي