تابعنا
"الحمد لله فأنا حامي القبلة الأولى"، هكذا قال السطان سليم الأول بعد أن سجد لله حامداً وتسلَّم مفاتيح المسجد الأقصى.

يشير المؤرخ العثماني محمد صولاق زاده إلى أنّ السلطان سليم الأول وصل إلى مدينة القدس في ذي الحجة 922هـ الموافق ديسمبر/كانون الأول 1516. وتشير مصادر تاريخية عثمانية إلى أنه أقام بها يومين، قدم إليه خلالهما العلماء والأتقياء والحكماء وشيوخ العرب وسلموه مفاتيح الأقصى وقبة الصخرة.

منذ ذلك الوقت أطلق السلطان سليم الأول على مدينة القدس اسم "القدس الشريف" وأدخل السرور إلى قلوب المقدسيين كما وعد أهالي القدس بالعديد من الإصلاحات التي حُرموا منها إبان حكم المماليك.

لقد أولى السلطان سليم الأول اهتماماً بمدينة القدس، إلا أن وفاته حالت دون تحقيق العديد من الوعود التي قطعها، ليأتي من بعده ابنه السلطان سليمان القانوني الذي شهدت في عهده مدينة القدس نقلة نوعية في كل المجالات.

السلطان سليم الأول تسلم مفاتيح الأقصى وقبة الصخرة في ذي الحجة 922هـ الموافق ديسمبر/كانون الأول 1516. (Others)

الحقبة الذهبية للقدس بعهد القانوني

تنقل "جمعية تراثنا لحماية التراث العثماني وإحيائه في القدس ومحيطها" التركية (Mirasımız) عن مصادر عثمانية تاريخية أنّ السلطان سليمان القانوني قدم العديد من الخدمات للقدس والمسجد الأقصى، على رأسها ترميم أسوار القدس وترميم قلعة القدس، وتجديد بناء قبة الصخرة المشرفة سنة 1542، فجدد نوافذها وثلاثة من أبوابها وصفّحها بقطع نحاسية من إسطنبول، ونفذ أول ترميم لمصلى قبة الصخرة وأعاد عمارة جدران الأقصى وأبوابه.

كما أنشأت زوجته السلطانة حرّم التكية المعروفة بخاصكي سلطان أو العمارة العامرة، وتحتوي على رباط وخان ومسجد ومطبخ من أكبر المنشآت الخيرية التي لا تزال حتى الساعة بفلسطين أنشأتها سنة 1551. وقد أنشأت خاصكي سلطان وقفاً ضخماً للإنفاق على تكيتها ضم قرى ومزارع بأربعة سناجق (جمع سنجق ويعني لواء) في سوريا وفلسطين، ومعظمها بجوار مدينة الرملة.

ويشير أستاذ التاريخ العثماني أحمد حسين عبد الجبوري بكتابه "القدس في العهد العثماني" إلى أن السلطان القانوني أنشأ المدرسة الرصاصية عام 1541.

ويورد الكتاب ما قاله سفير الملك الفرنسي بإسطنبول بيير بيلون حينما زار القدس بعهد السلطان القانوني سنة 1547 ولاحظ التغيير الكبير على المدينة، فيقول: "لقد أصبح للمدينة (القدس) منذ فترة قريبة أسوار عالية جديدة، والبيوت مغطاة بشرفات على الأسطح، والمخازن بالأسواق الرئيسية مقببة كالإسكندرية، مع فارق أن قباب القدس منيعة لأنها مصنوعة من حجارة منحوتة".

لسلطان القانوني خصص أموالاً طائلة لبناء المنشآت وجر المياه إلى القدس، إذ ربط المدينة بالبرك التي تعرف باسمه "برك سليمان" (Getty Images)

عاشت في سلام طيلة 4 قرون

لا يكاد ينتهي سرد الخدمات التي قُدمت للقدس والمسجد الأقصى بعهد السلطان القانوني على وجه الخصوص، فيجمع المؤرخون أن القدس في عهده عاشت أكثر حقباتها ازدهاراً وتطوراً، ونَعِم أهلها بالخير والأمن والسلام الذي باتت تفتقده اليوم بشدة على يد الاحتلال الإسرائيلي.

لقد عاشت الأديان السماوية بحرية لم تعرفها الدول الأوروبية يوماً ما في ذلك الزمن، سمحت خلالها الدولة العثمانية للنصارى واليهود الذين كانوا قلة قليلة بممارسة شعائرهم الدينية بحرية مطلقة وفق ما تقتضيه مبادئ الإسلام وأسسه.

وفي هذا الصدد يؤكد المؤرخ التركي الكبير إلبر أورتايلي -يعتبر من أبرز المؤرخين الأتراك على قيد الحياة ويُستشهد بهم كمصدر- بالقول: "مما لا لبس فيه أن هذه المدينة عاشت في سلام طيلة 4 قرون منذ 1516. لقد شُيدت أسوار المدينة في عهد السلطان سليمان القانوني، ورممت المساجد وممرات المياه".

كما يذكر الرحالة اليهودي الإيطالي الذي زار القدس سنة 1535 معلقاً على الحياة اليهودية في القدس بالقول: "هنا نحن لسنا بمنفى كما ببلادنا إيطاليا ذاتها، فالمُعيَّنون لجباية الضرائب والمكوس من اليهود، ولا ضرائب، بخاصة لليهود". وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن العثمانيين لا سيما بعهد القانوني لم يمارسوا فصلاً عنصرياً على جماعة دينية أو عرقية ما.

وفي هذا السياق يعلق المؤرخ التركي زكريا كورشون على فرض الاحتلال الإسرائيلي ضرائب على كنائس القدس والعائلات المسلمة في القدس الشرقية، بالقول: "إن الدولة العثمانية على مدار حكمها للقدس لم تسمح بظلم أي من سكان المدينة بغض النظر عن دينه أو مذهبه. ولم تفرض ضرائب إضافية على أحد غير التي حددها القانون آنذاك. كما سمحت لليهود بممارسة شعائرهم الدينية بلا مضايقة، وممارسة التجارة ضمن إطار القانون".

مواصلة السلاطين العثمانيين في الحفاظ على القدس

واصل السلاطين العثمانيون حفاظهم على القدس والمسجد الأقصى وإيلاء أقوى أنواع الاهتمام بهما على كل الأصعدة، فبعهد السلطان عبد المجيد بالقرن الـ19 أعيد ترميم المسجد الأقصى وسُخر لذلك نحو 20 ألف قطعة ذهبية. وبعهده سجل عدد سكان القدس زيادة ملحوظة بفضل الأمن والإصلاحات التي حققها، لدرجة أن الأهالي بدؤوا بناء المساكن خارج أسوار القدس عام 1858.

كذلك الأمر بعهد السلطان عبد العزيز (1867)، إذ شهدت القدس نقلة نوعية وتطويراً بالعديد من المجالات. فشُيد العديد من الطرق والأسواق ووُصل بين القدس ويافا ونابلس، كما رُصفت شوارع القدس بالرخام. ولقد صرف السلطان عبد العزيز نحو 30 ألف أقجة عثمانية لزخرفة الأقصى وترميمه.

يقول المؤرخ التركي المعاصر زكريا كورشون موضحاً مدى اهتمام العثمانيين بالقدس على وجه التحديد: "لقد خلَّف العثمانيون آثاراً عظيمة بالقدس لقدسية هذه المدينة، نتحدث عن نحو ألفَي وقف عثماني داخل أسوار القدس فقط، تضم مساجد ومدارس وأسواقاً ونزلًا وحمامات. وسيدرك الباحث أنه لم تحظَ منطقة صغيرة الحجم بهذا الاهتمام سواء الأناضول والبلقان وأي منطقة عثمانية".

ويلفت كورشون إلى أنّ الإمبراطورية العثمانية بذلت جهوداً خاصة لتعيش الأديان الثلاثة بسلام وتتمكن من أداء عبادتها بحرية كاملة".

يا مسلمي العالم اتحدوا

حين الحديث عن دور السلطان عبد الحميد الثاني المشرف نحو القدس وفلسطين لا يدري المرء من أين يبدأ قبل أن ينتهي إلى نهاية حزينة طالما حذر منها وحاول مقاومتها ذلك السلطان الذي أفِلت معه وحدة العالم الإسلامي وقوته.

لن نتحدث عن الخدمات المدنية التي لا تنتهي، بل سنركز الآن على مقاومته المشروع الصهيوني الذي لم يكن لينجح لولا تخاذل بعض من بالداخل أو خيانتهم. حينما استشعر الخطر الذي يحدق بمدينة القدس من قبل اليهود سارع إلى ربط مدينة القدس بمركز الحكم في الدولة العلية وحث ولاته هناك على مراقبة تحركات اليهود والتصدي لهجرة الصهاينة ومراقبة جميع عمليات شراء العقارات وبيعها في القدس، وكل ذلك يشير إلى تيقُّظ السلطان عبد الحميد الثاني لخطورة الوضع الذي كان يسود المشهد.

يشير الأكاديمي المصري أحمد عبد الله نجم في بحث له بعنوان "جهود الدولة العثمانية في مواجهة الاستيطان اليهودي بفلسطين حتى الحرب العالمية الأولى من خلال الوثائق العثمانية" إلى أنّ "عدد اليهود بفلسطين عام 1919 كان 10 آلاف فقط، في حين وصل عام 1948 إلى 650 ألفاً". (تشير مصادر عثمانية إلى أن عدد اليهود بعهد السلطان سليمان القانوني لم يتجاوز 3 آلاف في فلسطين، ما يعني أنه طيلة 400 عام من عهد الدولة العثمانية لم يشهد عدد اليهود بفلسطين أي زيادة جادة).

ويذكر الأكاديمي المصري نجم بالبحث ذاته أن "الأراضي الفلسطينية التي كان يملكها اليهود في 1918 بلغت 650 ألف دونم (919.3 متر مربع أيام العثمانيين) بنسبة 2% من المساحة البالغة 26 مليون دونم (الدونم = ألف متر مربع). بينما ارتفعت إلى 8% أي نحو 650 ألف دونم حتى 1948”.

كذلك أصدر السلطان عبد الحميد الثاني قانوناً عام 1883 يحرم بيع الأشياء غير المنقولة بالدولة العثمانية عامة لليهود الأجانب. كما أصدر قراراً في 1884 بمنع الهجرة اليهودية مع السماح للأجانب منهم بزيارة فلسطين، على ألا تتجاوز إقامتهم فيها ثلاثة أشهر.

وربما نعلم جميعاً كيف رفض السلطان عبد الحميد الثاني الإغراءات المالية من زعيم الحركة الصهيونية هرتزل مقابل بيع فلسطين لتكون دولة لليهود تحت السيادة العثمانية. على الرغم من حاجة الدولة العثمانية الماسة إلى المال بسبب ديونها فإن عبد الحميد رفض بالقطع قائلاً: "لن أتنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني بل ملك الأمة الإسلامية، وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم، وإذا مُزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فأن يعمل المبضع ببدني أهون عليّ من أن أرى فلسطين بُترت من دولة الخلافة وهذا أمر لا يكون، إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".

لم يكن هرتزل وحده مَن حاول إغراء السلطان عبد الحميد الثاني لبيع فلسطين والقدس، فذكر كتاب "صحوة الرجل المريض" أن ثلاثة من اليهود البارزين قدموا للقاء السلطان عبد الحميد فاستقبلهم تحسين باشا رئيس الكتاب وأصر على معرفة ما يريدون كي ينقله للسلطان، فأعلموه أنهم مستعدون لوفاء جميع ديون الدولة العلية وبناء أسطول لحمايتها وتقديم قروض بـ35 مليون ليرة ذهبية بلا قروض، مقابل إباحة دخول اليهود فلسطين متى شاؤوا بأي يوم في السنة وبناء مستعمرة قرب القدس كي ينزل بها اليهود خلال زياراتهم.

حينما علم السلطان عبد الحميد الثاني بذلك غضب بشدة وأمر بطردهم قائلاً: "قل لهؤلاء الوقحين إن ديون الدولة ليست عاراً، وإن بيت المقدس الشريف افتتحه للإسلام أول مرة سيدنا عمر، ولست مستعداً أن أتحمل تاريخياً وصمة بيع الأراضي المقدسة لليهود وخيانة الأمانة التي كلفني المسلمون حفظها".

ونختم هذا المقال بمقتطف من الرسالة التي بعث بها السلطان عبد الحميد الثاني إلى شيخه محمود أبو الشامات عقب خلعه من الخلافة، قال فيها: "لقد أُجبرت على ترك الخلافة من قبل جمعية الاتحاد والترقي. إن هؤلاء الاتحاديون أصروا أن أُصدِّق على تأسيس وطن قومي لليهود بفلسطين فرفضت تكليفهم بشكل قاطع، وأخيراً وعدوا بتقديم 150 مليون ليرة إنجليزية فرفضت بشكل قاطع وأجبتهم: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فلن أقبل. لقد خدمت الأمة الإسلامية المحمدية ما يزيد على 30 عاماً فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين".

أما عن رسالة السلطان عبد الحميد الثاني إلينا نحن معاشر المسلمين فقد قال لنا قبل رحيله: "يا مسلمي العالم اتحدوا".

TRT عربي
الأكثر تداولاً