إعداد: أمل رنتيسي - هلا الزهيري
أمام أعين العالم تتوالى مشاهد التجويع القاسية في قطاع غزة المحاصر، فيضطر السكان لطحن أعلاف الحيوانات لصنع الخبز وأكله بعدما انقطع الطحين، ومشاهد أخرى لأطفال يتهافتون للحصول على بعض الطعام المسكوب من نقاط التوزيع في مخيمات النزوح، بينما لا يجد سكان آخرون شمالي القطاع حتى هذا الطعام فلجؤوا إلى استصلاح بعض الأعشاب مما ينمو من الأرض أو أكل بواقي الطعام الفاسد والمتعفن، أو الأكل كل ثلاثة أيام.
"متنا من الجوع"، جملة ترددت على لسان كثيرين في قطاع غزة، في سياسة عقاب جماعية ينتهجها الاحتلال بحق الفلسطينيين وسط تنامي خطر المجاعة بين 2.3 مليون نسمة بالتزامن مع تدهور شديد الخطورة في الصحة والتغذية والأمن الغذائي والنقص الشديد في خدمات الصحة والمياه والصرف الصحي والنظافة.
تعددت أسباب الموت في قطاع غزة الذي يواجه آلة الحرب الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلّا أن لعل الوعد الأبرز الذي نفّذه الاحتلال بحق المدنيين هو ما أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 9 أكتوبر/تشرين الأول بقوله: "لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق.. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك".
ومع تواصل الحرب لليوم الـ148 تستمر عمليات قتل المدنيين والتجويع الممنهج، واستهداف تجمعات استلام المساعدات، فقد تجاوز عدد الشهداء عتبة الـ30 ألفاً، رغم أوامر محكمة العدل الدولية لإسرائيل بمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية.
تعرض TRT عربي في هذا الملف قصصاً لأهالي غزة يواجهون خطر المجاعة والأثر الأكبر في الأطفال والنساء الحوامل، وكيف تستخدم إسرائيل سلاح التجويع ضد المدنيين، فيما يرقى إلى جريمة حرب، وتناقش مع خبراء ومختصين أبرز الأنماط التي يتبعها الاحتلال للتجويع، إضافةً إلى سبل المحاسبة.
* "الجوع أسوأ ما في الحرب"
من جباليا البلد شمالي قطاع غزة يشكو عرفات أحمد (50 عاماً) صعوبة تأمين الطعام لأطفاله مع نفاد مادة الطحين والمواد الغذائية، واعتمادهم على طحن أعلاف الحيوانات لصنع الخبز منه وهو ما لا يتقبله الأطفال.
ويقول: "أكثر ما يؤلمني في الحرب هو الجوع والحرمان الذي يعانيه أطفالي، لا يوجد طعام أو مياه نظيفة للشرب، أحزن على أولادي عندما يطلب أحدهم الطعام ولا يجدونه.. نحن منسيون الآن وننتظر الموت".
ويضيف أحمد: في بداية الحرب كان يوجد طحين، لكنه نفد الآن، و"البديل الذي كنا نطحنه كالشعير والذرة ليست مناسبة على الإطلاق، والأطفال لا يتقبلونها".
ويشير إلى أن الرز -إنْ وُجد- فسعره مرتفع أيضاً، إذ لا يستطيع الرجل تأمين ثمنه لانقطاعه عن عمله منذ بدء الحرب مثل حال كثيرين من العمّال الذين حُرموا من أشغالهم ومصدر رزقهم خلال الحرب.

أمّا السيدة أم مصعب (28 عاماً) والنازحة من بيت حانون إلى مدرسة في مخيم جباليا، فتشكو قلة الحليب والخبز الذي تحتاجه لإطعام أطفالها، وتجد بنشاء الذرة المخلوطة مع السكر (المهلبية) بديلاً يسدّ رمقهم، لصعوبة عجن طحين أعلاف الحيوانات من شعير وذرة وتفتته في أثناء الخبز، فضلاً عن معاناتها في تأمين المياه النظيفة التي صار سعرها مرتفعاً جداً أيضاً.
ترسل أم مصعب ابنتها في بعض الأحيان لجلب الرز من أماكن التوزيع في المدارس، "في هذه الظروف، الرز جيد نوعاً ما الحمد لله، لكنه لا يغني عن الخبز"، وفق تعبيرها.
لدى السيدة خمسة أطفال، وتوضح لـTRT عربي أن جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتقل زوجها، مما تركها من دون معيل سوى شقيق زوجها الذي يعطيها 20 شيكلاً (5.45 دولار تقريباً) كل أسبوع.
أصبح أولادي من قلة الخبز والحليب والطعام هزيلين للغاية، لم يكونوا هكذا قبل الحرب، إنهم يشكون أيضاً البرد والسعال، أغلب الليالي لا ينامون
بدورها، تصف أم محمد البراوي (43 عاماً) ما يحصل من تجويع بـ"الحرب النفسية"، وتقول لـTRT عربي إن "الناس لا يستطيعون توفير طلباتهم وأطفالهم، الموت صار أرحم من هذه العيشة".
وكجميع سكان ما بقوا من الأحياء الشمالية، تشكو السيدة صعوبة توفير الطحين والأرز، مؤكدة أن "الوضع سيئ، وأطفالها يأكلون كل ثلاثة أيام مرة، لا يوجد بدائل سوى الرز عندما يطبخونه في المدارس".
وتتابع أم محمد: "صحة أطفالي ليست جيدة، وأخذتهم إلى الطبيب وقال لي إنهم يعانون الجفاف من قلة الغذاء"، مطالبة بأن تتوقف الحرب والسماح بإيصال المساعدات إلى محتاجيها، "الوضع ليس هيّناً على الأطفال والنساء".

خطر على الأطفال والنساء الحوامل
السيدة الثلاثينية صمود عبد القادر من سكان بيت حانون شمالي قطاع غزة والنازحة الآن في مدارس مخيم جباليا، حامل في شهرها السادس، وتبدي تخوّفها من تأثير القنابل الغازية في صحة جنينها، وتقول: "عندما يضربون قنابل غازية لا أستطيع التنفس، أخشى من أن يتأثر جنيني بالتشوهات من هذه القنابل".
فضلاً عن المخاوف من الأسلحة والقنابل، تعتبر السيدة أن جنينها معرّض أيضاً لخطر سوء التغذية، إذ اعتادت أن تأكل البيض والحليب عند حملها في أولادها الآخرين، كما تؤكد لـTRT عربي.
وتضيف: "نفطر ونتغدى ونتعشى الرز، لا يوجد خضار أو بيض وحليب، وحتى إن وجدت هذه المواد فسعرها عال جداً".
حتى لحظة إعداد التقرير لم تستطع صمود الاطمئنان على جنينها وسط المعارك والقصف والنزوح، وتؤكد أن عادة ما حركة الجنين تكون قوية في آخر الشهر السادس للحمل، إلّا أن حركة الجنين خفيفة هذه المرة.
متخوفة من نقص الغذاء للجنين، حتى لا يوجد أدوية أو فيتامينات تعوّض ما لا نأكله، كانت آخر وجبة لنا منذ شهر تقريباً، كيلو لحم قسّمته على أفراد عائلتي الستة
القابلة آية العُطل في قسم التوليد في مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة توضح أنه بسبب العدوان الإسرائيلي لا يوجد أي شيء تعتمد عليه النساء الحوامل الآن من غذاء، حتى أبسط الأمور من بروتينات وفيتامينات ومعادن غير متوافرة، ما يؤثر سلباً في صحة الأم والجنين.
وتفيد العُطل لـTRT عربي بأن 90% من حالات الحوامل التي تصل المستشفى يعانين فقر الدم وقلة الغذاء، إضافة إلى الآثار السلبية في وزن الجنين، وفي بعض الحالات يحصل نزيف للأم خلال الولادة.
وتشير إلى أن قلة الغذاء تؤثر في نفسية الأم عندما لا يتوافر لها غذاء متكامل، وسيؤثر في صحة الطفل، ونقص الرضاعة الطبيعية للطفل ستجعله أكثر عرضة للعدوى والأمراض، مؤكدة أنه فُقدت حياة عددٍ من الأطفال في العناية المركزة نتيجة سوء التغذية.
وأعلن المتحدث في وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة أشرف القدرة في 28 فبراير/شباط الجاري عن ارتفاع عدد الأطفال الشهداء بسبب المجاعة إلى ستة أطفال، بعد وفاة طفلين في "مجمّع الشفاء الطبي" بمدينة غزة، نتيجة الجفاف وسوء التغذية.
تقييمات الغذاء في القطاع.. كيف يبدو الوضع؟
بحسب ما رصدته TRT عربي فإن عموم قطاع غزة يواجه أزمة غذائية، إلّا أنها تتركز بشكل أساسي شمالي القطاع، وذلك في سياسة عقاب يمارسه الاحتلال الإسرائيلي بحق من لم يترك منزله وينزح إلى جنوبي القطاع.
وأفاد مراسل TRT عربي في مدينة جباليا، أن الوضع الإنساني كارثي جداً، ويزداد سوءاً يوماً بعد يوم بسبب شح الغذاء، إذ انقطعت جميع الموارد والمنتجات الغذائية، أبرزها مادة الدقيق الأبيض -وهي الأكثر استخداماً لأهالي قطاع غزة- واتجه السكان بعد ذلك إلى استخدام الدقيق الأسمر أو حبوب القمح والذرة والشعير، والتي كانت أصلاً مستوردة لاستخدامها أعلافاً للحيوانات.

ويعود ازدياد الأزمة في الشمال إلى أسباب عدّة، أولها أن المساعدات التي تدخل إلى القطاع دائماً ما تكون في مناطق الجنوب، ولا تصل إلى الشمال نظراً للحاجز الذي أقامه الاحتلال الإسرائيلي بين شطري القطاع، عندما قسّمه بين شمال وجنوب.
فضلاً عن أن السلة الغذائية لقطاع غزة موجودة في الجزء الأكبر في المحافظات الجنوبية، إذ تعتبر مدينة خان يونس الأولى من حيث المساحة الزراعية والسلة الغذائية الأساسية للقطاع، وبذلك تكون حصة شمال قطاع غزة من هذه السلة الغذائية غير متوفرة.
السبب الثالث هو أن البضاعة التي كانت تدخل شمال غزة وإلى قطاع غزة بشكل عام، كانت موجودة في مخازن كبيرة بمدينة رفح بالقرب من المعبر، وبالتالي كان هناك كميات كبيرة من الطعام والشراب متوفرة في محافظات الجنوب، ولم تكن تصل إلى محافظات الشمال.
أما في وسط قطاع غزة وجنوبه فيعتمد السكان بدرجة أساسية على المعلبات القليلة التي تُوزع من خلال الطرود الغذائية من الجهات الإغاثية كـ"وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا) وغيرها على مخيمات النازحين.
وإلى جانب العجز الكبير في المواد والسلع الغذائية، فإن أسعار بعض الخضراوات واللحوم الحمراء قفزت إلى 5 أضعاف مع غياب الكميات المتوافرة في الأسواق وصعوبة الأوضاع الاقتصادية لقرابة 1.7 مليون نازح.
وتخلو الأسواق أيضاً من الدجاج بفعل تدمير الاحتلال الإسرائيلي لعشرات المزارع، إذ يعتمد الفلسطينيون حالياً على ما يصل من معبر رفح في إطار الشاحنات التجارية.
واضطرت الأسر الفلسطينية إلى تخفيض عدد وجبات الطعام اليومية إلى وجبة واحدة، وفي المقابل نشط عدد من المبادرات الخيرية والتكيات في الشوارع لتوفير بعض الأطعمة مثل العدس أو وجبات الأرز من دون اللحم على الأسر الفقيرة والأطفال المنتشرين في مخيمات اللجوء والنزوح في القطاع.
وفي هذا السياق يقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل ثوابتة: "يوماً بعد يوم تتفاقم الحالة الإنسانية في قطاع غزة، وتتردّى بشكل غير مسبوق، ويزداد الوضع الميداني كارثية وسوءاً بشكل لم يمر به قطاع غزة من قبل".
ويضيف ثوابتة لـTRT عربي أن الأسواق والمحال التجارية تعاني جفاف المواد الغذائية الأساسية، مثل الطحين والزيت والأرز والمعلبات بأنواعها المختلفة، بالتزامن مع التوقف التام لعمل 448 مخبزاً، وبالتالي انعدام مئات الأصناف من المواد الغذائية من السوق تماماً.
ويبيّن أنه إلى جانب المعاناة المتواصلة لـ2.4 مليون إنسان في قطاع غزة، فإن أعداد النازحين إلى محافظات أخرى أصبحت كبيرة جداً وفوق الطاقة الاستيعابية، ما زوّد الإقبال على المواد الإغاثية الأساسية غير الموجودة أصلاً.
ويؤكد ثوابتة أن "هذا الأمر ينذر بحدوث مجاعة وانتشار للأمراض والأوبئة في محافظات قطاع غزة، وبالفعل بدأت المجاعة في محافظة شمال قطاع غزة، حيث نفد كل شيء هناك، حتى حبوب وأعلاف الحيوانات التي يأكلها الناس".
ويلفت إلى أن صعوبة الوضع الإنساني في قطاع غزة أنهكت بشكل واضح جميع المستشفيات والطواقم الحكومية وغير الحكومية العاملة بشكل مستمر في الميدان، فضلاً عن برودة الطقس وهطول الأمطار التي رفعت الطلب إلى احتياجات ومستلزمات تعين المواطنين على التكيّف مع المناخ والأمطار وفصل الشتاء.
نحمّل المجتمع الدولي والإدارة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن تردّي الحالة الإنسانية في قطاع غزة، ونطالب دول العالم والمنظمات والهيئات الدولية بالوقوف عند مسؤولياتها ووقف جريمة التجويع وتوفير الاحتياجات الأساسية والغذائية وفتح المعابر لإنقاذ القطاع قبل وقوع كارثة جديدة.
تحذيرات دولية
ومع اقتراب دخول الحرب شهرها السادس، تستمر المناشدات المحلية والدولية لكسر الحصار المفروض، إذ أكد برنامج الأغذية العالمي في 9 فبراير/شباط الماضي أن خطر المجاعة يزداد يوماً بعد يوم، ولا سيّما للأشخاص شمال القطاع الذين انقطعت عنهم المساعدات بصورة كبيرة.
وكانت المرة الأخيرة التي تمكنت فيها "أونروا" من تنفيذ عملية توزيع المواد الغذائية في شمال وادي غزة، في 23 يناير/كانون الثاني الماضي، وفقاً لآخر تحديث للوضع صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية.
وأفاد تقرير برنامج "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" (برنامج أممي يرصد مستويات الجوع في العالم، ويصنف مستويات الجوع من 1 إلى 5) في 21 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، أنه بين الفترة 8 ديسمبر/كانون الأول 2023 و7 فبراير/ شباط 2024، سيكون جميع سكان قطاع غزة البالغ عددهم نحو 2.2 مليون نسمة عند مستوى جوع يلامس "الأزمة أو ما هو أسوأ".
التصنيف المذكور هو "المرحلة الغذائية الثالثة أو أعلى"، ويشمل أعلى نسبة من الأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد التي صنفتها "مبادرة التصنيف المتكامل للأمن الغذائي" على الإطلاق في أي منطقة أو بلد معين، ومن بين جميع سكان غزة، يعيش نحو 50% منهم (قرابة 1.17 مليون شخص) في "حالة طوارئ" (وهي المرحلة الرابعة من التصنيف). إضافة إلى ذلك، تواجه واحدة على الأقل من كل أربع أسر؛ أي أكثر من نصف مليون شخص "ظروفاً كارثية" (المرحلة 5 من التصنيف).
وحذرت منظمة الصحة العالمية في 19 فبراير/شباط الماضي من الارتفاع الحاد في معدلات سوء التغذية بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة، ما يشكل تهديدات خطيرة لصحتهم، وفقاً لتحليل جديد شامل.
وخلص التقرير إلى أن الوضع خطير بشكل خاص في شمال قطاع غزة، الذي انقطعت عنه المساعدات بشكل شبه كامل منذ أسابيع، ووجدت فحوصات التغذية التي أُجريت في مراكز الإيواء والمراكز الصحية في الشمال أن 15.6% أو 1 من كل 6 أطفال دون سن الثانية يعانون سوء التغذية الحاد.
بينما أكدت "منظمة إنقاذ الطفولة" في 22 فبراير/شباط الماضي أن الأسر في غزة تضطر إلى البحث عن بقايا الطعام التي خلفتها الجرذان، وتأكل أوراق الشجر للبقاء على قيد الحياة في ظل ما يقرب من خمسة أشهر من الحرب والانخفاض السريع في إمدادات المساعدات، ما يجعل جميع أطفال غزة البالغ عددهم 1.1 مليون طفل يواجهون المجاعة.
من جهته، حذّر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من مخاطر تصاعد ضحايا نهج تجويع الاحتلال الإسرائيلي لسكان قطاع غزة، ولا سيما في صفوف الأطفال والمسنين، ووثق المرصد وفاة الرضيع "جمال محمود جمال الكفارنة" من مواليد أغسطس/آب 2023 من بلدة بيت حانون شمالي قطاع غزة، جراء الجوع بسبب عدم توافر الغذاء اللازم له ولوالدته.
وتلقى المرصد إفادات بشأن حادثة أخرى حول وفاة الرضيع "براء الحداد" (عام ونصف العام) من سكان مدينة غزة، جراء الجوع والجفاف يوم 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
مسؤولة التواصل والمناصرة في مؤسسة "آكشن أيد- فلسطين" رهام الجعفري قالت إن "كل شخص في قطاع غزة يعاني الآن الجوع في وضع يزداد سوءاً".
وأضافت لـTRT عربي: "سمعنا عن عائلات لم يكن لديها سوى قطعة خبز واحدة ليتقاسموها طوال اليوم، ويشعر بعض الناس باليأس لدرجة أنهم يطحنون أعلاف الحيوانات لاستخدامها دقيقاً، ولا يجد كثيرون خياراً سوى شرب المياه القذرة والملوثة، ويصابون بالمرض نتيجة لذلك".
ولفتت الجعفري إلى أن "عدد شاحنات المساعدات المسموح لها بالدخول إلى قطاع غزة لا يزال منخفضاً للغاية"، مؤكدة ضرورة "زيادة هذا العدد بشكل عاجل إذا كان هناك أي أمل في تجنّب حدوث مجاعة واسعة النطاق في غزة".
معبر رفح والكذب الإسرائيلي
ادعى الاحتلال الإسرائيلي خلال جلسات الاستماع أمام محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني الماضي مسؤولية مصر الكاملة عن معبر رفح، وزعم أن السلطات المصرية هي المسؤولة عن دخول المساعدات إلى قطاع غزة من دون موافقة تل أبيب.
لكن مصر نفت بصورة قاطعة مزاعم فريق الدفاع الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، وأكد رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية ضياء رشوان أن "سيادة مصر تمتد فقط على الجانب المصري من معبر رفح، بينما يخضع الجانب الآخر منه في غزة لسلطة الاحتلال الفعلية".
وأشار رشوان إلى أنه ما تجلى فعلياً في آلية دخول المساعدات من الجانب المصري إلى معبر كرم أبو سالم الذي يربط القطاع بالأراضي الإسرائيلية، إذ يجري تفتيشها من جانب الجيش الإسرائيلي، قبل السماح لها بدخول أراضي القطاع.
وصرّح المتحدث باسم الخارجية المصرية أحمد أبو زيد أن العراقيل الإسرائيلية هي التي تعيق دخول المساعدات، معرباً عن أسفه من أن عملية نقل المساعدات إلى القطاع تواجه مشكلات لوجيستية رئيسية فرضها الجانب الإسرائيلي، فهو يشترط ضرورة تفتيش الحافلات بمعبر "نتسانا" الإسرائيلي المقابل لمعبر العوجة المصري، ثم تتوجه الحافلات بعد ذلك إلى منفذ رفح في رحلة تستغرق مسافة 100 كلم قبل دخولها إلى القطاع، الأمر الذي يخلق أعباءً بيروقراطية ومعوقات تؤخر وصول تلك المساعدات بشكل كبير.
فيما وجهت جهات عدّة منها الأمم المتحدة، اتهامات متواصلة لإسرائيل بعرقلة دخول المساعدات إلى المدنيين في قطاع غزة.
وفي نهاية العام الماضي، قال مسؤول الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة مارتن غريفيث عبر منصة "X" إن "هناك ثلاثة مستويات من تفتيش الشاحنات قبل دخولها إلى غزة مع وجود ارتباك وصفوف طويلة وقوائم متزايدة من المواد المرفوضة وعمليات القصف المستمرة من جانب إسرائيل".
واعتمد مجلس الأمن الدولي قراراً يدعو إلى اتخاذ خطوات عاجلة للسماح فوراً بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل موسَّع وآمن، ومن دون عوائق إلى قطاع غزة عبر آلية للأمم المتحدة بالتشاور مع جميع الأطراف المعنية، وهو قرار لم تلتزمه إسرائيل.
فيما ردت الأمم المتحدة على اتهامات إسرائيل بأنها المسؤولة عن الثغرة في وصول المساعدات، وقال الأمين العام أنطونيو غوتيريش في ديسمبر/كانون الأول إن "الطريقة التي تدير فيها إسرائيل الحملة العسكرية خلقت كثيراً من العقبات".
ودخلت أول دفعة من المساعدات في 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعدد 20 شاحنة إلى قطاع غزة، ثم زاد معدل الشاحنات تدريجياً حتى بلغ 200 شاحنة بمتوسط يومي، خلال أيام الهدنة بين إسرائيل وحماس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دخلت أولى شاحنات الوقود إلى القطاع بعد شكاوى متكررة من المنظمات الإنسانية في غزة من تعطل خدماتها بسبب نفاد الوقود.
ويقتصر المرور عبر كرم أبو سالم إلى غزة على الشاحنات الخاصة بمنظمات الأمم المتحدة، بينما يجري تفتيش الشاحنات الأخرى، وتعود لتدخل القطاع عبر معبر رفح.
وتعرضت قوافل المساعدات لإطلاق نار من الجيش الإسرائيلي أكثر من مرة، وعلى سبيل المثال أعلنت الأمم المتحدة في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن قافلة مساعدات إنسانية تعرضت لإطلاق نار، وهي في طريقها إلى تسليم إمدادات طبية منقذة للحياة لمستشفيين في قطاع غزة.

ويؤكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة أنه وصل إلى قطاع غزة بين 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 و10 فبراير/شباط الماضي إجمالي الشاحنات من المساعدات التي استلمتها وزارة التنمية والشؤون الاجتماعية 1772 شاحنة، ضمت مواد غذائية بشكل قليل جداً، ولوازم طبية وأغراضاً صحية وملابس ومياهاً وأكفاناً.
ويقول الثوابتة لـTRT عربي إن "المساعدات التي تدخل هي مجرد أكذوبة لذر الرماد في العيون، وللأسف هناك أكثر من 600 ألف طن من المساعدات ما زالت متكدسة على الجانب الآخر من المعبر، وهي مخصصة لأهالي قطاع غزة، لكنها لم تدخل منذ شهور طويلة".
بدورها تبيّن القائمة بأعمال مدير مكتب الإعلام والتواصل في "أونروا" في غزة إيناس حمدان أن الوكالة بحاجة إلى هدنة وقف إطلاق نار مع توفير ممر آمن، لكي يتسنى لطواقمها إيصال المساعدات الغذائية وغيرها من المساعدات تحديداً في مناطق غزة والشمال.
وتضيف حمدان لـTRT عربي أن الوصول إلى هذه المناطق صعب ومعقد، ولا تحصل الوكالة على التصاريح اللازمة من السلطات الإسرائيلية لعبور قوافل المساعدات رغم الحاجة الماسة والملحة لعبورها بشكل منتظم وبكميات كافية للمواطنين في ظل نقص حاد في توافر المواد الغذائية وانقطاع بعضها.
وتشير إلى أن "باقي طواقم الوكالة تتحرك في مناطق الجنوب، وتوصل المساعدات الغذائية وباقي الخدمات الإغاثية إلى مراكز التوزيع ومراكز الإيواء للنازحين".
وتشدّد حمدان على أن الأونروا "طالبت مراراً وتكراراً بتوفير ممر آمن ليتسنى إيصال المساعدات للمناطق كافة، مضيفةً: "منذ فترة حاولنا الوصول إلى غزة وتقديم الدقيق، لكن نظراً للأوضاع غير المستقرة في طريق العودة، تعرضت قوافل الوكالة لإطلاق نار".
وتشير إلى أن "فترة الهدنة التي استمرت أسبوعاً في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي شهدت إرسال قوافل غذائية ومواد لازمة للنازحين في مناطق الشمال، ومع انتهائها لم يعد سهلاً العمل هناك، ولا بد من الأساس الحصول على تصريح، وفي حال حصلنا عليه تأخذ هذه العملية وقتاً كبيراً".
قوافلنا تنتظر وقتاً طويلاً يصل إلى 8 ساعات على الحاجز الإسرائيلي، الوصول صعب جدّاً ومحفوف بالمخاطر، ويعتبر من أصعب العمليات التي تديرها الأونروا
* جريمة حرب
ذكر تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي أن "الحكومة الإسرائيلية تستخدم تجويع المدنيين أسلوباً للحرب في قطاع غزة المحتل، ما يشكل جريمة حرب".
وأكدت المنظمة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يتعمّد منع إيصال المياه والغذاء والوقود، بينما يعرقل عمداً المساعدات الإنسانية، ويبدو أنه يجرّف المناطق الزراعية، ويحرم السكان المدنيين من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم.
ووفق المنظمة الحقوقية، "أدلى مسؤولون إسرائيليون كبار، منهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير الطاقة يسرائيل كاتس، بتصريحات علنيّة أعربوا فيها عن نيّتهم حرمان المدنيين في غزة من الغذاء والمياه والوقود، وهذه التصريحات تعكسها العمليات البرية للجيش الإسرائيلي".
وفي مقاله له على وكالة الأناضول، كتب المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري أن "إسرائيل لا تجعل المنطقة غير صالحة للسكن وحسب من خلال قصف المنازل والبنية التحتية المدنية، بل بالوقت نفسه لا تترك مكاناً آمناً في غزة، كما تستخدم الجوع سلاحاً لإيذاء وقتل المدنيين في القطاع".
وأشار إلى أن إسرائيل تخنق غزة منذ سنوات، ما أدى إلى تقييد شديد لتدفق البضائع، وبسبب الحصار، وحتى قبل هذه الحرب كان نصف سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وكان 80% منهم بحاجة إلى مساعدات إنسانية، والطريقة الوحيدة لإنهاء هذا الرعب هي وقف فوري لإطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية من دون عوائق.
ويخضع قطاع غزة منذ نحو 18 عاماً بالأصل لحصار بري وبحري وجوي من الاحتلال الإسرائيلي، ما أدى إلى تقويض الظروف المعيشية للسكان لسنوات وفق الأمم المتحدة، إذ تمنع إسرائيل البضائع مثل الغذاء والدواء من الدخول بسهولة عبر الحدود، وكان اعتماد السكان الأساسي على البضائع التي تدخل عبر معبر "كرم أبو سالم".
ومنذ ذلك الحين يشكل الحصار حالة مثيرة للجدل في الأوساط الحقوقية، إذ كانت تتجنب إسرائيل مخالفة القانون الإنساني الدولي عبر السماح لبعض السلع المحددة بالدخول بعد تفتيش صارم.
ولخّص دوف فايسغلاس، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت في عام 2006 ذلك بقوله: "إن الفكرة تتلخص في وضع الفلسطينيين على نظام غذائي معيّن، ولكن ليس تجويعهم حتى الموت، ومن المفترض أن تشجع آلام الجوع الفلسطينيين على إجبار حماس على الاستسلام، وتغيير موقفها تجاه إسرائيل أو إجبارها على الخروج من الحكومة".
قبل الحرب كان هناك نحو 500 شاحنة تدخل يومياً بما في ذلك ما هو في إطار النشاط التجاري، وكانت الأمم المتحدة تدخل نحو 200 شاحنة يومياً مساعدات إنسانية، إلّا أنها لم تكن كافية لاحتياجات السكان، إذ كان هناك ما يقارب 1.2 مليون شخص في قطاع غزة يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد قبل التصعيد العسكري. وكان للقيود التجارية تأثير كبير في أسعار المواد الغذائية في الأسواق، فقد كانت تكلفة السلع الأساسية ترتفع في كثير من الأحيان حتى قبل الأزمة الحالية، نظراً لمحدودية وصول القطاع إلى الأسواق العالمية.

ما رأي القانون الدولي؟
في عام 1998، أنشأ نظام روما الأساسي المحكمة الجنائية الدولية، وجعل من استخدام تجويع المدنيين تكتيكاً عسكرياً في الصراع الدولي جريمة حرب، وتُوصف الجريمة بأنها "تهدف إلى حرمان السكان المدنيين من الغذاء، وكذلك من الماء والدواء والمأوى". وكانت الولايات المتحدة وإسرائيل من بين الدول السبع التي صوّتت ضد إنشاء المحكمة.
وفي هذا الصدد، تؤكد الخبيرة في القانون الدولي أستاذة الدبلوماسية الدكتورة دلال عريقات أن القانون الإنساني الدولي أو قوانين الحرب تحظر تجويع المدنيين أسلوباً من أساليب الحرب.
وينص "نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية" على أن تجويع المدنيين عمداً بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمّد عرقلة الإمدادات الإغاثية هو جريمة حرب.
وفي حديثها مع TRT عربي تشير عريقات إلى أن "ما يشهده قطاع غزة اليوم لم نشهد له مثيلاً في تاريخ القضية الفلسطينية، ويأتي ضمن سياسات تهدف للقضاء على الوجود الفلسطيني".
تجويع المدنيين كأسلوب الحرب محظور بموجب المادة 54 (1) من "البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف" والمادة 14 من "البروتوكول الإضافي الثاني".
رغم أن إسرائيل ليست طرفاً في البروتوكولين الأول والثاني، إلّا أن الحظر معترف به باعتباره يمثّل القانون الإنساني الدولي العرفي في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. لا يجوز لأطراف النزاع "التسبّب عمداً بالتجويع" أو التسبّب عمداً في "معاناة السكان من الجوع، ولا سيما عبر حرمانهم من مصادر الغذاء أو الإمدادات".
تصنيف المجاعة هو الأعلى على مقياس "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" (المرحلة 5) ويحدث عندما تواجه فيه "ما لا يقل عن 20% من الأسر نقصاً شديداً في الغذاء، ويعاني 30% من الأطفال على الأقل سوء التغذية الحاد، وتحدث في ظله أكثر من حالتي وفاة يومياً بين كل 10 آلاف شخص بسبب الجوع الشديد أو نتيجة لسوء التغذية والمرض معاً".

ما السُبل الممكنة لرفع الحصار؟
لا يتضمن القانون الدولي الإنساني قواعد صريحة تحظر استخدام أسلوب الحصار العسكري في الحروب، وفي مراسلة إلكترونية لـTRT عربي مع البرنامج المعني في المجاعة والأزمات الإنسانية في منظمة "الامتثال للحقوق العالمية" (Global Rights Compliance)، قالت الشريكة في المنظمة والمحامية البريطانية كاتريونا مردوخ: "من المهم توضيح أن القانون الإنساني الدولي ينص على أنه يجوز لأطراف النزاعات المسلحة فرض الحصار، بما في ذلك على المناطق الحضرية المكتظة بالسكان مثل غزة، وبالتالي فإن رفع الحصار ليس مُلزماً، إذا كان الحصار الإسرائيلي يتوافق مع القواعد ذات الصلة مع القانون الدولي الإنساني".
وتضيف مردوخ أن هناك مبادئ أساسية لم تحترمها إسرائيل في حالات الحصار العسكري، إذ يجب احترام وحماية موظفي الإغاثة الإنسانية وضمان حرية حركتهم وحماية المنشآت الإغاثية، وضمان وصول الإغاثة إلى المدنيين المحتاجين وحظر تجويعهم كوسيلة من وسائل الحرب، لافتة إلى أن "القوات الإسرائيلية في غزة لم تحترم أياً من هذه المبادئ".
وتشير إلى صدور دعوات متكررة لوقف إطلاق النار في غزة، بما في ذلك على وجه الخصوص من الجمعية العامة في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكنها تعتقد أنه من غير المرجح أن ترفع إسرائيل الحصار، وخصوصاً مع هجومها المتمركز الآن على رفح جنوب القطاع.
وتؤكد مردوخ أن "الحصار الشامل على غزة يشكل عقاباً جماعياً بالطريقة التي يجري بها تنفيذه، سياق غزة هو أحد أفظع الأمثلة للعقاب الجماعي على الإطلاق في الحروب الحديثة، ولا يوجد سوى القليل من الشك حول نية المسؤولين الإسرائيليين فرض التجويع عبر تصريحاتهم والمنع التام للمساعدات الإنسانية التي -وإنْ دخلت- فهي غير كافية على الإطلاق لتلبية احتياجات السكان المدنيين".
الحصار الشامل على غزة يشكل عقاباً جماعياً بالطريقة التي يجري بها تنفيذه، سياق غزة هو أحد أفظع الأمثلة للعقاب الجماعي على الإطلاق في الحروب الحديثة، ولا يوجد سوى القليل من الشك حول نية المسؤولين الإسرائيليين فرض التجويع عبر تصريحاتهم والمنع التام للمساعدات الإنسانية التي -وإنْ دخلت- فهي غير كافية على الإطلاق لتلبية احتياجات السكان المدنيين
وتلفت مردوخ إلى أهمية ملاحظة أن الحرمان التام للإغاثة الإنسانية من القوات الإسرائيلية "لا يمكن القول إنه موجّه فقط إلى أعضاء حماس، ولا سيما في ظل التفاوت بين عدد المدنيين (2.2 مليون) وعدد مقاتلي حماس المفترض أن عددهم (نحو 40 ألفاً) وهو فرق ضخم للغاية، وأن أي رفض للمساعدات الإنسانية التي يُزعم أنها موجهة إلى حماس فقط من شأنه أن يجعل هذا الرفض غير متناسب على الإطلاق، وبالتالي غير قانوني، كما أن اللغة والتصريحات اللاإنسانية تدل على نية الحصار".
"إن تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب يقع ضمن نطاق تعريف جرائم الحرب بموجب القانون الإنساني الدولي العرفي، وهذا يعني أن السلطات القضائية الوطنية المحلية قادرة على مقاضاة جريمة التجويع باعتبارها جريمة حرب بموجب الولاية القضائية العالمية، من دون انتظار المحكمة الجنائية الدولية لاستكمال تحقيقاتها، وذلك بالاعتماد على الأدلة التي يُحافظ عليها بمعايير الطب الشرعي من منظمة الالتزام بالحقوق العالمية وشركائها".
كيف ردّت إسرائيل على تقارير المنظمات؟
وصفت إسرائيل منظمة "هيومن رايتس ووتش" بأنها "معادية للسامية ومعادية لإسرائيل"، رداً على تقرير المنظمة الذي أكدت فيه استخدام إسرائيل للتجويع سلاحاً للحرب.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية ليور هايات إن "هيومن رايتس ووتش لم تندد بالهجوم على المدنيين الإسرائيليين وبمجزرة السابع من أكتوبر، وليس لديها أي أساس أخلاقي للحديث عما يحدث في غزة إذا غضت الطرف عن معاناة الإسرائيليين وحقوقهم الإنسانية".
ونفى الاحتلال الإسرائيلي مراراً مسؤوليته عن التحذيرات الدولية حول نقص الغذاء في غزة، وادعى إيلاد جورين، رئيس وحدة تنسيق أعمال الحكومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمعروفة باسم "كوجات" (COGAT)، أن "هناك كمية كافية من الغذاء في غزة".
وأردف: "إسرائيل لم ولن تقف في طريق تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة الذين لا يشكلون جزءاً من الإرهاب.. لم نرفض أي شحنة من الغذاء أو الماء أو الإمدادات الطبية أو معدات الإيواء".
كما أخلى جورين مسؤولية إسرائيل من أي عملية عدم إيصال المساعدات بقوله إنه "إذا لم يتمكن سكان غزة من الوصول إلى الغذاء، فذلك بسبب فشل المنظمات الإنسانية".
لكن المنظمات الدولية العاملة في قطاع غزة -منها منظمة الأغذية العالمية- أكدت مراراً أنها لا تستطيع إدخال عدد الشاحنات المعتاد قبل الحرب؛ لأن توزيع هذه المساعدات المحدودة يكاد يكون مستحيلاً بسبب تدمير الاتصالات ونقص الوقود والقصف الإسرائيلي المستمر، فضلاً عن التفتيش العسكري الإسرائيلي المعقد والمطوّل، ما لا يسمح إلّا لعدد محدود من شحنات المساعدات كل يوم.
* ممارسات ممنهجة.. ما أبرز الأنماط التي يتّبعها الاحتلال للتجويع؟
أدت ممارسات عدّة للاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة للوصول إلى مرحلة المجاعة، فمنذ بداية الحرب، تعمّد جيش الاحتلال استهداف المخابز وقصف العشرات منها، ولا سيما في مدينة غزة وشمالها، وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي قصف الاحتلال آخر مطاحن القمح، وهي مطحنة السلام في دير البلح في المنطقة الوسطى، ما أدى إلى توقّف المطاحن جميعها عن العمل.
كما تعمدت قوات الاحتلال منع توصيل المياه والغذاء والوقود، وفي 12 من يناير/كانون الثاني الماضي، أكد مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية "أوتشا" أن "السلطات الإسرائيلية تمنعه بشكل منهجي من الوصول إلى شمال قطاع غزة لتوصيل المساعدات، ما أعاق بشكل كبير العملية الإنسانية هناك"، وقال رئيس المكتب أندريا دي دومينيكو، إن "العمليات في الشمال أصبحت أكثر تعقيداً على نحو متزايد".

وفضلاً عن الحصار، يستهدف الاحتلال من يحاول الوصول إلى منافذ الماء أو الغذاء عبر القنص، ومثال على ذلك حادثة إطلاق النيران على طفل وفتاة في 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عندما حاولا الحصول على بعض الفاكهة من بائعين متجولين في حي الشيخ رضوان شمالي وادي غزة.
بدوره وثّق "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" في تقرير له في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي هجمات جوية ومدفعية على سكان فلسطينيين، ولا سيما الأطفال خلال محاولاتهم التزوّد بكميات من المياه.
وفي هذا السياق، تقول المحامية البريطانية والخبيرة القانونية في شؤون المجاعة كاتريونا مردوخ إن "الأنماط التي نشهدها في غزة تشمل النطاق الكامل للجرائم المرتبطة بالتجويع، مثل الهجمات المتعمدة ضد البنية التحتية الحيوية والأشياء التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة مثل البنية التحتية للطاقة والمنازل والأسواق ومخيمات النازحين والمستشفيات وسيارات الإسعاف والمرافق الطبية؛ والحرمان التعسفي وغير القانوني من المساعدات الإنسانية لنحو 2.2 مليون مدني، والتهجير القسري".
وتضيف: "نتيجة لهذا السلوك، لا يزال النساء والرجال والأطفال في غزة يواجهون خطراً شديداً في ظل الحصار، وهم معرّضون لخطر الموت المباشر بسبب الجوع والجفاف والأمراض المزمنة".
وتلفت إلى أن "الاستخدام المتعمّد والمدروس للتجويع وسيلة من وسائل الحرب، ولا سيما على مدى السنوات السبع الماضية، ليست حالة فريدة، إذ تمكنت منظمة الامتثال للحقوق العالمية من توضيح كيفية استمرار ارتكاب جرائم التجويع بطرق معقدة بشكل متزايد، بما في ذلك التكتيكات الأساسية المستخدمة لتحقيق أهداف عسكرية استراتيجية، كما هو الحال في سوريا واليمن وجنوب السودان وإثيوبيا".
يتضح من جرائم التجويع في غزة أن مثل هذا السلوك لا يمكن تهميشه، بل يشكل جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الشاملة للطرف المتحارب، وتكون بمثابة أداة جوهرية في سبيل نجاح الهجمات العسكرية