تابعنا
تتخفى بعض الأيديولوجيات ومواقف العداء للآخر، في أغلب الأحيان بلبوس الدفاع عن القيم المهمة للمجتمعات، فيصبح بذلك من السهل تمرير بعض الأفكار والتمهيد لبعض الإجراءات الرسمية التي يمكن وصفها بالعنصرية أو التمييزية.

وهو المثال الذي ينسحب على الساحة الفرنسية، حيث تتواصل إلى اليوم وتيرة التصريحات المتشنجة للفاعلين السياسيين وبعض النخب المثقفة، والتي كانت تدعي في البداية حرصها على حرية التعبير وحمايتها لقيم الجمهورية الفرنسية، لكنها لم تتردد في أن تعلن العداء الصريح للإسلام والمسلمين كمتهم وحيد بالعنف والإرهاب.

فرغم أن العمليات الإرهابية وأحداث العنف هي ما أجج شعور الخوف والكراهية لدى الشارع الفرنسي، إلا أن السياسيين وحتى الدوائر الرسمية ساهموا وبقسط كبير في تغذية هذه المشاعر عبر الخطابات التي وسمها البعض "بغير المسؤولة". 

حرب على الإسلام أم دفاع عن حرية التعبير؟ 

"الإسلام يعيش أزمة في كل أنحاء العالم. وهناك نزعة انعزالية إسلامية تُنكر قيم الجمهورية الفرنسية وتسعى إلى إقامة نظام موازٍ"

هكذا صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الجمعة 2 أكتوبر/تشرين الثاني، ليضع الإسلام في مواجهة مع ما أسماه بقيم الجمهورية الفرنسية، وموجهاً بذلك إصبع الاتهام لطَيف واسع من المهاجرين والمواطنين الفرنسيين.

وبعد أسابيع من تصريحات الرئيس الفرنسي، وجهت الحكومة إلى المجلس التشريعي نسختها الأولى من قانون مكافحة الانعزالية الإسلامية والذي يساهم في تعزيز قبضة الدولة على المسلمين في فرنسا. 

ويتضمن القانون بنوداً بالرقابة على تمويلات الجمعيات الإسلامية، وبنوداً أخرى تحتم على هذه الجمعيات نشر مبادئ وقيم الجمهورية الفرنسية. 

ويرى كثيرون أن مواقف ماكرون ليست سوى مغازلة لليمين المتطرف ومحاولة لكسب تأييدهم وبالتالي أصواتهم في الانتخابات الرئاسية القادمة، خصوصاً في ظل ما سببته له "السترات الصفراء" من صداع، وتهاون في شعبيته.

فالرئيس الفرنسي الشاب الذي احتفل المهاجرون والأفارقة بفوزه على ماري لوبان في سباق الانتخابات الفرنسية سنة 2017، كتب في مذكراته Revolution حينها متحدثاً عن جدته والتي كانت معلمة، "أنها كانت ستأسف لمنع الفتيات المسلمات المحجبات من الحصول على المعرفة ربما بسبب خلفيتهم الثقافية، ولكن في النهاية، كانت ستأسف حقيقة أننا لا نستطيع أن نجد شيئاً أفضل من الحظر والمواجهة وكل العداء الذي يتعارض تماماً مع ما يجب أن نخلقه لمستقبلنا".

ويمكن أن يحيل ذلك إلى أن العداء الواضح للمسلمين في خطابات ماكرون، ربما تكون مضاربة سياسية وليست موقفاً أصيلاً لديه، فاليمين المتطرف في فرنسا طيف واسع وله مناصرون كثيرون يجب أن لا يخسر ماكرون تأييدهم. وبذلك يتلون الرئيس الفرنسي بتلون المزاج السياسي ويحدث شقاً داخل المجتمع الفرنسي بدلاً من أن يتصرف كقائد يسعى إلى توحيد شعبه.   

لم يكن الرئيس ماكرون وحده في ساحة التحريض هذه، بل تبعه ثلة من عناصر حكومته، فهذا وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان Gérald Darmanin الذي لم يفوت الفرصة لشن هجوم على المسلمين في فرنسا، واعتبر الإرهاب ثمرة حتمية للإسلام السياسي وأداة لمحاربة قيم الجمهورية الفرنسية.

وقام الوزير الفرنسي مؤخراً بتوجيه قرار بغلق بعض المساجد والجمعيات الإسلامية التي يعتبرها حسب تصريحه أماكن للتطرف وبلغ عددها 356.

وفي تصريحاته على شاشات التلفزيون الأخيرة هدد جيرالد دارمانان، الوزير الفرنسي من أصول جزائرية ومالطية، المهاجرين المقيمين في فرنسا بالترحيل إن قاموا بالاعتراض على عرض الكاريكاتور في المدارس أو أي شكل من أشكال حرية التعبير.

إن قيام بعض المسؤولين على أعلى هرم السلطة بالتصريحات المعادية للإسلام والمسلمين، يجعل من ذلك موقفاً رسمياً للجمهورية الفرنسية، ويساهم بتوتير العلاقات مع نظيراتها من الدول في العالم الإسلامي، ومزيد من استفزاز مشاعر المسلمين الفرنسيين، وتعزيز للانقسام داخل المجتمع.

اليمين المتطرف ككتلة ضاغطة على الموقف الفرنسي

لم يُخفِ التيار اليميني في فرنسا عداءه الصريح للمسلمين في أي وقت كان، مستمداً زخمه الشعبي من إثارة الكراهية والعنصرية لدى الشارع الفرنسي. 

ولم تمثل العمليات الإرهابية وأحداث العنف إلا فرصة مناسبة للتأكيد على ضرورة التصدي لما يسمونه "بالظلامية والتطرف". 

وتعتبرمارين لوبان Marine Le Pen رئيسة الجبهة الوطنية، أهم رموز اليمين المتطرف في فرنسا، والشخص الأكثر عداء للإسلام.

وعمدت لوبان، عقب مقتل المدرس الفرنسي على يد الشاب الروسي، إلى الضغط على المسؤولين الفرنسيين لاجتثاث الإسلامية من فرنسا حسب تعبيرها.

ودعت الجميع عبر حسابها الرسمي على تويتر إلى محاربة وقتال ما سمته بالهمجية الإسلامية.

ومن جانب آخر، صرّحت فاليري بوير Valérie Boyer عن التيار اليميني والمستشارة البلدية في مرسيليا، أن فرنسا كانت سلبية في مقاومة التطرف الإسلامي، وأنها مستعدة للمشاركة في البرنامج الذي سيقوم بمحاربة الإسلام الراديكالي. 

والمتابع لتطورات الساحة الفرنسية، يلاحظ في الفترة الأخيرة صعوداً لعقيدة يمينية متطرفة تسمى الهوياتية. 

ففي سنة 2012 تأسست منظمة سياسية تعرف باسمجيل الهويةوهي جماعة يمينية متطرفة عرفت بمواقفها المعادية للمسلمين والمهاجرين وتحرض على طردهم من فرنسا. 

وذكرت صحيفة الغارديان البريطانية أن جماعة Génération Identitaire نظمت مظاهرات في فرنسا جذبت حوالي 500 شخص. أي أن هذه المنظمة تلقى قبولاً لدى فئة من الشعب الفرنسي وتأييداً لمطالبها وقيمها التي تنادي بها. 

وبتورط هذه المنظمة في أعمال عنف، نفت رئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبان أي علاقة لها بالحزب. 

لكن فيلماً وثائقياً أعدته وحدة التحقيقات بالجزيرة بعنوان "جيل الكراهية" عن اليمين المتطرف في فرنسا، كشف العلاقات السرية بين متطرفي منظمة "جيل الهوية " وحزب الجبهة الوطنية. وسبب الفيلم جدلاً كبيراً على الساحة الفرنسية.

وبالتالي بات من الواضح أن التيار اليميني والدوائر الرسمية الفرنسية يدينون ما يصفونه "بالإرهاب الإسلامي" ويغضون الطرف عما يمثله لدى اليمينيين الفرنسيين، ليكون بذلك المسلمون المستهدفين الوحيدين من حملات التحريض والتضييق، ويبدو بذلك الدفاع عن حرية التعبير وعلمانية الدولة مجرد ادعاء سياسي.

لم يتوقف التيار اليميني في فرنسا عند التحشيد والتعبئة ضد المسلمين، كمتهم وحيد بالإرهاب حسب ما يزعمون. بل حمّلوا الدولة المسؤولية عن التساهل مع ما وسموه بالإسلام الراديكالي. 

استجاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والدوائر الرسمية للدولة عبر مسؤوليها وهياكلها لهذه الدعاوى، وذلك عبر الدفع بمزيد من الإجراءات والقوانين التي تضيق على المسلمين الفرنسيين وتسعى إلى طرد المهاجرين. 

لكن هذا المنحى الذي تتوخاه فرنسا، لا يؤسس للتعايش ويهدد السلم المجتمعي حسب ما يرى بعض الأكاديميين والسياسيين الفرنسيين. 

TRT عربي