الأصدقاء الثلاثة عند بوابة حدودية مقابلة لتل أبيض (TRT Arabi)
تابعنا

على مقربة من بوابة حدودية مقابلة لمدينة تل أبيض السورية، يتخذ عدد من اللاجئين السوريين لأنفسهم مقاماً منذ الأربعاء الماضي، تخرق نظراتهم الحدود والسدود، وتتجه صوب المدينة آملين أن يعودوا إليها عمّا قريب.

وتحت الظلّ الوارف لإحدى الأشجار الباسقة في المكان، يجلس قاسم وحسين وأحمد، أصدقاء ثلاثة، يعبرون بشوق عن رغبتهم بالعودة إلى تل أبيض قريباً، إلى حضن العائلة، وذكريات الحي العتيق، فيما لا يخلو حديثهم من أماني يحلمون بتحقيقها حال عودتهم.

يجتهد قاسم في شرح خريطة المدينة التي غادرها قبل عدّة سنوات لأصدقائه الذين يصغون إليه بصمت شديد كأنهم يسترجعون معه شيئاً من ذكريات الماضي، ويسرح بهم الخيال في مستقبل باتوا يرونه قريباً، بعد إذ سيطر الجيش الوطني السوري والجيش التركي على المدينة، وطردوا منها عناصر تنظيم PKK/PYD الإرهابي الذي عاث بها فساداً.

"انظر هذه البوابة"، يحدّثني قاسم ويشير ببنانه، "لو فُتحت أمامي الآن ونادوا بنا أن ادخلوا لدخلت فوراً دونما تردُّد، فالشوق إلى مدينتي يغلب على كل شيء، ما زلت بانتظار الإعلان عن السماح لنا بدخولها مجدداً، وآمل أن لا يطول الأمر حتى تتطهر نهائيّاً من الانفصاليين".

يقول قاسم إنه غادر المدينة مع عائلته متجهين صوب مدينة أقجة قلعة التركية قبل سنوات، بعد أن ضاقت بهم شوارعها بما رحبت، وبات وجودهم في المنزل يشكّل خطراً على أفراد العائلة أجمعين، "عناصر التنظيم الإرهابي لم يكونوا يحترمون شيخاً أو طفلا، شابّاً أو امرأة، فالجميع لديهم سواء".

صمت الأصحاب جميعاً، ومن حولنا تَجمَّع حشد من اللاجئين السوريين الذين جذبهم الحديث، يقطع قاسم الصمت مرّة أخرى، يتنهد كأنه ينفث من صدره ناراً متقدة منذ سنين، "رأيت ما لم يره أحد من قبل، شاهدت عدداً من أقراني الذين دخلوا السجون ولم يخرجوا منها سوى أجسادٍ مهترئة من شدة العذاب، وشاهدت كيف كان عناصر PKK يعتدون على الكبير والصغير في الطرقات".

يقطع أحمد الحديث على عجالة من أمره، فيأمره قاسم أن "تريّث قليلاً"، بيد أن صوته كان يعلو على كل صوت آخر، قال بحرقة "أتعلمون أنني هربت في اللحظة الأخيرة قبل اقتيادي للتجنيد الإجباري؟".

"نعم، تَردَّد عناصر التنظيم على منزلنا عدة مرات بحثاً عني، كانوا يطلبونني للتجنيد في صفوفهم، أرادوا الدفع بي لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي، لأنهم يقتادون العرب إلى المعارك ليخوضوها بدلاً منهم، ولكن أسرتي آثرت الهرب على أن تسلّمني للتنظيم، وقد آل بنا المآل إلى أقجة قلعة".

ألستَ سعيداً في أقجة قلعة؟ قلت متسائلاً، فقال "بلى، هنا يعاملنا الأتراك كإخوتهم، منازلهم وحاراتهم تتسع لنا، لكن لا بديل من الوطن، لا بديل من منزلي الذي فيه نشأت، ولا أدري ما الذي حلّ به بعد كل هذه السنوات، فهؤلاء كانوا يستبيحون كل شيء، الحجر والبشر على حد سواء".

يروي أحمد أنه قبل فراره إلى أقجة قلعة التركية، كان يرى معاناة الناس في تل أبيض تزداد يوماً بعد يوم، "حتى شيوخ العشائر الذين كانوا يحظَون باحترام الكبير والصغير لدينا، لم يحترمهم عناصر التنظيم، كانوا يُقتادون إلى السجون، ويتعرضون للأذى المتواصل ليلَ نهارَ".

بينما تدور رحى الحديث، يهدأ تارة ويزداد حدة تارة أخرى، يبقى حسين في صمته لا يكاد يخرج عنه إلا قليلاً، يبدو الشابّ كأنه يسرح في طيف خيال قديم يراوده، قد يبتسم مرّة ويعبس أخرى، حالة لم يقطعها إلا أسئلة آثرت أن أوجهها إليه، وقد أثار في نفسي صمته ألف سؤال. "كأن حسين لم يتعرض لأي مكروه"، قلت مخاطباً إياه، فابتسم الشاب وقال: "بل تَعرَّض حسين لِمَا لم يتعرض له سواه".

"كيف ذلك؟"، قلت وقد أدركت بأنني أكاد أحصل على رواية جديدة لمشهد جديد، قال مجيباً بصوته الخفيض: "كان آخر من تعرض للتعذيب أحد أقربائي، دخل سجون التنظيم الإرهابي أشهُراً معدودة فقط، ولكننا لم نستطع التعرف عليه بعد خروجه".

يضيف حسين وقد اعتراه حزن شديد كان كفيلاً بأن يخيّم على الجميع، "كان قد تَعرَّض لتعذيب شديد لا ينمّ إلا عن نقمة وحقد دفين، لم يرتكب أي جرم، يُعرَف بسمعته وأخلاقه الحميدة بين الأهالي، ولكن ذلك لم يشفع له، فخرج من السجن وقد تغيّرت معالم وجهه، حتى أقرب النّاس إليه لم يعرفوه".

ويقول الشاب إنه غادر تل أبيض بعد أن ترامت إلى مسامعه قصص الأولين من الشباب الذين جنّدهم التنظيم الإرهابي ليقاتلوا في صفوفه تحت وطأة التهديد باستهداف أفراد أسرهم، "ليس لأهلي سواي، لم أكُن أبتغي أن أجنَّد لأقاتل في حرب ليست حربي، في صفوف الذين يحتلون مدينتي ويعيثون فيها فساداً، فلم يكُن لديّ خيار سوى الرحيل".

يتفق الأصدقاء الثلاثة، وإن اختلفت أوجه المعاناة بينهم وأشكالها، على أن تل أبيض كانت معتقَلة لدى تنظيم لا يمتّ إليها ولا إلى أهلها بأي صلة، ويُجمِعون، كما أخبروني، على أنهم بانتظار إشارة فقط، كي يعودوا إلى منازلهم.

وأعلن الجيش الوطني السوري والجيش التركي الأحد، أنهما نجحا في تحرير مدينة تل أبيض من براثن عناصر التنظيم الإرهابي، وأشاروا إلى أن عملية نبع السلام العسكرية التي أُطلِقَت الإربعاء مستمرة، لإقامة منطقة آمنة في منطقة شرقي نهر الفرات، كي يتسنى لمن أراد من اللاجئين السوريين العودة إلى ديارهم، وكي ينعم سكان المدن التركية الحدودية بالأمن مجدداً.

أحمد: عناصر التنظيم الإرهابي لم يكونوا يحترمون أحداً في تل أبيض (TRT Arabi)
قاسم غادر تل أبيض برفقة عائلته بعد أن ضاقت بهم شوارع المدينة بما رحبت (TRT Arabi)
الأبصار تشخص إلى تل أبيض وأمل العودة يتجدَّد (TRT Arabi)
TRT عربي
الأكثر تداولاً