الرئيس الفرنسي يرسل طائرات رافال والفرقاطة لافايت إلى شرق البحر المتوسط (Reuters)
تابعنا

بينما كانت السفينة التركية "أوروتش رئيس" - محاطة بترسانة عسكرية- تتوغل في أمواج المتوسط، نحو موقعها المحدد للبحث والتنقيب عن الغاز، فيما يعرف بالمسح السيزمي ثنائي الأبعاد، كانت المقاتلات الفرنسية تحلق في أحد المناطق البحرية المتنازع عليها قرب قبرص اليونانية.

مقاتلتان من نوع رافال، واللتان أُرسلتا مؤخراً إلى الجزيرة، مدعومتين بطائرة أخرى من سلاح الجو الفرنسي، طارتا فوق منطقة اقتصادية تزعم اليونان أنها خاضعة لها قبل العودة إلى القاعدة في قبرص اليونانية في إطار اتفاق التعاون الدفاعي بين قبرص اليونانية وفرنسا، الذي دخل حيز التنفيذ بداية الشهر الجاري.

لم يكن هذا الظهور الوحيد لفرنسا في شرق المتوسط، والذي لا تنتمي له جغرافياً، بل عزز ذلك تصريحات رئيسها من باريس، الذي قال إن بلاده ستعزز وجودها العسكري في شرق البحر المتوسط وسط التوترات، إضافة إلى تدشين خط مفتوح مع أثينا ونيقوسيا، ودعوته الاتحاد الأوروبي لاجتماع طارئ من أجل الملف ذاته.

يأخذ الموقف الفرنسي نزعة تصعيدية في شرق المتوسط، يطرح التساؤلات حول علاقة باريس بالملف رغم أنها ليست من الدول المتشاطئة فيه، فيما صار موقفها يتجه نحو العدوانية كلما تعلق الأمر بتركيا، إذ لا ينفك الرئيس الفرنسي عن مهاجمة أنقرة في كل مناسبة، ويدعم كل أعدائها من تنظيم PKK الإرهابي إلى خليفة حفتر الانقلابي.

باريس و"متلازمة أنقرة"

في العاشر من يونيو/حزيران الماضي، خرجت وزارة الجيوش الفرنسية برواية مفادها أن فرقاطة فرنسية في المتوسط تعرضت لثلاث "ومضات لإشعاعات رادار" من أحد الزوارق التركية التي تُؤَمّن سفينة شحن تركية.

واتهمت الوزيرة فلورانس بارلي، تركيا بالتحرش بفرقاطة تابعة لها، داعية وقتها إلى تحقيق من حلف شمال الأطلسي من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة، ولكن بعد التحقيق في الحادثة تبين أنها مجرد ادعاءات من باريس لا أساس لها من الصحة.

ومع مطالبات أنقرة لها بالاعتذار عن الاتهامات الباطلة، والتي تجاهلتها باريس، أدت هذه الحادثة إلى خسارة كبيرة لها في البحر المتوسط، إذ أعلنت وقتها انسحابها المؤقت من عملية المراقبة البحرية للناتو التي تعرف باسم "حارس البحر"، مع الالتزام بالصمت الكامل تجاه الحادثة.

في جهة أخرى من الجغرافيا، لا تخفي فرنسا دعمها للانفصاليين في سوريا، ورغم أنها حليف لتركيا في الناتو، إلا أنها تدعم ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية والتي يهيمن عليها تنظيم PKK/YPG الإرهابي.

تعارض فرنسا كل عمل مسلح ضد التنظيمات الإرهابية، بل تكشف تقاير استخباراتية أنها تسلح هذه الجماعات، وتعقد معهم اجتماعات تنسيقية، وهو ما بدا وكأنه تهديد لأحد أعضاء الناتو ودعم لللإرهاب.

في شرق المتوسط، تستقر حاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديغول" بالقرب من السواحل القبرصية- اليونانية، فيما تدعم باريس وجودها حالياً بطائرات رافال وبالفرقاطة لافايت، تأتي هذه التعزيزات وكأنها رسالة عسكرية لتركيا من أجل منعها من البحث والتنقيب، وهو ما يعتبر دعماً واضحاً لخصوم أنقرة.

تتبنى فرنسا نهجاً كاملاً في دعم القبارصة واليونانيين على حساب تركيا، ففي يناير/كانون الثاني للعام 2019 أجرت فرقاطة فرنسية مناورات مع السفن القبرصية قبالة سواحل قبرص، وفي 16 مايو/أيار من السنة ذاتها، وقّعت باريس اتفاقية مع قبرص منحت السفن الحربية الفرنسية حقّ الرسوّ في قاعدة ماري البحرية القبرصية التي يجري توسيعها لاستيعاب السفن الحربية التابعة للبحرية الفرنسية.

بالعودة قليلاً للوراء، تعتبر فرنسا واحدة من الدول المساهمة في تشكيل الوضع الحالي، إذ كانت الدولة الحاضنة لمعاهدة سيفر في إحدى ضواحيها، والتي أرادت أن تفرض وقتها الأمر الواقع دون أخذ رأي الدولة العثمانية المنهارة، وهو ما يفسر هذه "المتلازمة" التي أصبحت فرنسا تنقلها معها في كل ملف وهي "متلازمة تركيا".

ليبيا وخلط الأوراق

تعود جذور الأزمة في شرق المتوسط إلى عام 1974، منذ أن أنقذت تركيا القبارصة الأتراك من انقلاب تدعمه اليونان، وأنزلت جنودها لحمايتهم لينتهي الحال بوضعية مقسمة بين قبرص شمالية تدعمها تركيا وقبرص جنوبية تدعمها اليونان.

تعقدت الأزمة أكثر مع التوصل لما يعرف باتفاق البحار سنة 1982 عندما أجاز للجزر الحق في جرف قاري (200 ميل) وهو ما يمنحها منطقة اقتصادية خاصة، الأمر الذي تعترض عليه أنقرة بكونه يسلبها حقوقها وهي صاحبة أطول شريط ساحلي على المتوسط، إذ يمنح هذا القانون اليونان الحق في امتلاك المتوسط كون جزرها منتشرة فيه.

ومع ذلك، لم تعرف المنطقة منذ ذلك الحين توترات كهذه وتصعيداً من قبل ما أطلق عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اسم "تحالف الشر" إلا بعد الاتفاق التركي-الليبي، الذي عُقد في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، والذي بموجبه تدخلت تركيا في ليبيا لدعم الشرعية وقلبت المعادلة لصالح حكومة الوفاق بعد حصارها لمدة ستة أشهر من قبل مليشيات حفتر.

الاتفاق الذي أعاد ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، والذي قطع الطريق أمام كل محاولات إقصاء تركيا من المتوسط، عبر ما يعرف بمنتدى غاز شرق المتوسط والذي تطمح فرنسا للانضمام إليه رغم عدم انتمائها الجغرافي له، أسس لشرعية التحركات التركية ضمن الحدود المائية الجديدة، وهو ما أكده أردوغان، بأن سفن البحث والتنقيب التركية تتحرك ضمن الاتفاق مع ليبيا وداخل شرعيته.

فرنسا، والداعمون لحفتر، كانوا من الرافضين بشدة لهذا الاتفاق، ومن الداعمين لعملية "إيريني" البحرية التي تبدو ظاهراً لمراقبة تدفق الأسلحة إلى ليبيا، إلا أنها وحسب لوفيغارو بدت وكأنها عملية استخباراتية فرنسية لمراقبة الدعم التركي لحكومة الوفاق وتحركات أنقرة ضمن الاتفاق مع طرابلس.

ومع خسارة حفتر كامل الغرب الليبي، وقرب عملية تحرير سرت- الجفرة والتي تعتبر أهم موانئ تصدير النفط الليبي إلى جانب الحقول التي تضمها المدينتان، ظهرت التحركات الفرنسية في شرق المتوسط بتنسيق مع اليونان وقبرص اليونانية ومصر، في محاولة بدت وكأنها ردة فعل على ما آلت إليه الأمور في ليبيا.

لكن ما يضعف الموقف الفرنسي، بحسب صحيفة لوفيغارو، هو ما تُتهم به باريس من لعبة مزدوجة في ليبيا، إذ تدعم حليف روسيا في ليبيا فيما هي تحاول التخلص من التبعية الأوروبية للغاز الروسي عبر شرق المتوسط، والذي تحاول أن تضع فيه أقدامها عبر عملاقها شركة "توتال".

"توتال".. رأس الحربة

من أول اكتشاف للغاز شرق البحر المتوسط أصبحت هذه المنطقة أكثر جاذبية لشركات الطاقة الكبرى، إذ أصبحت موارد شرق المتوسط تحت مجهر هذه الشركات الأوروبية والأمريكية، التي دخلت ساحة المنافسة، محملة بالطموحات السياسية لبلدانها.

من أبرز اللاعبين شركة توتال الفرنسية والتي تأسست عام 1924، وأنتجت النفط والغاز لمدة قرن تقريباً، ما جعل اسمها معروفاً في مجال الطاقة، حيث تنتشر في أكثر من 130 دولة في العالم ويعمل في مصانعها نحو 100 ألف موظف، وتطمح إلى ريادة قطاع الطاقة في العالم، وهو ما قد تحققه قريباً لكثرة إنجازاتها واكتشافاتها، كما يقول مراقبون.

بحلول نهاية عام 2017، كانت شركة "توتال" تحفر آباراً للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص، وعقبها بعام، اكتشفت حقل "كاليبسو" الذي يحتوي على نحو 6 إلى 8 تريليونات قدم مكعب، ويقع بالقرب من حقل "ظهر" العملاق الذي اكتشفته شركة "إيني" الإيطالية قبالة سواحل مصر عام 2015، وغيّر المشهد في شرق المتوسط لأنه جدد اهتمام شركات الطاقة بهذه المنطقة.

ورغم تحديد المياه المتنازع عليها مع تركيا لأنها تقع ضمن الجرف القاري التركي، إلا أن هذه العملية تمت بدعم من المسؤولين الفرنسيين الذين وقفوا صراحة مع قبرص اليونانية وقالوا إنها تملك الحق في استكشاف واستغلال مواردها الطبيعية، دون أي اعتبار للقانون أو حقوق القبارصة الأتراك.

إلى جانب سواحل قبرص، قادت "توتال" عمليات التنقيب قبالة سواحل لبنان في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، من خلال مشروع تبلغ حصتها فيه 40%، أي أقل من النصف بقليل، ما يجعلها تجني أموالاً طائلةً من ثروات شرق المتوسط، ففي عام 2018، حققت "توتال" إيرادات إجمالية بلغت 209.36 مليار دولار أمريكي.

التخلص من الغاز الروسي

من ناحية أخرى، ومع إمكانيات كسب تريليونات الدولارات من التنقيب والبحث واستخراج الغاز، أمام فرنسا معضلة أخرى تحاول التخلص منها بمعية الاتحاد الأوروبي، وهي معضلة الغاز الروسي.

إذ أصبح من الواضح أن حلم المياه الدافئة بالنسبة لروسيا بات صعباً، فوجدت ضالتها في البحر المتوسط، حيث تضع قدم في ليبيا بدعم فرنسي ويمر غازها إلى أوروبا.

علاوة على ذلك، من الحقائق المعروفة جيداً أن أحد أولويات الاتحاد الأوروبي القصوى تنويع وارداته من الطاقة على حساب روسيا. وعلى ذلك الأساس، فإن رد فعل روسيا عبر "دبلوماسية خطوط الأنابيب" على توسع الناتو في حديقته الخلفية الاستراتيجية، يمثل عاملاً إضافياً في تعقيد الأوضاع مع أوروبا.

لذلك ، أصبحت الاحتياطيات المكتشفة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​مهمة للغاية في العلاقات بين روسيا و "محور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي"، رغم الشراكات الموجودة بين الشركات الروسية والفرنسية والإيطالية.

وهنا يُفهم أيضاً التدخل الفرنسي بهذه الطريقة، كونه محاولة لنقل الطاقة إلى الأسواق الأوروبية عبر خط أنابيب تحت البحر من إسرائيل إلى اليونان عبر قبرص اليونانية، وهو الأمر الذي أصبح غير ممكن مع الاتفاق التركي-الليبي.

تنتشر شركة توتال في أكثر من 130 دولة في العالم ويعمل في مصانعها نحو 100 ألف موظف (Reuters)
TRT عربي
الأكثر تداولاً