مع تحرير حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً قاعدة الوطية الاستراتيجية، وتغيُّر موازين القوى في ليبيا، تحولت الجارة تونس إلى ساحة للجدل السياسي حول ما يدور في ليبيا، بين مؤمن بموقف الدولة والشرعية الدولية، ومناصر لمشروع الانقلابي خليفة حفتر.
ومع اتصال رئيس البرلمان التونسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي برئيس الحكومة الليبية و"تهنئته بتحرير قاعدة الوطية"، تَحوَّل الجدل من ما يدور في ليبيا إلى من يملك سلطة التهنئة والتعبير عن مواقف تونس الخارجية، التي هي -حسب الدستور- من صلاحيات رئيس الجمهورية.
فتح هذا الاتصال بين الغنوشي والسراج الباب على مصراعيه أمام أزمتين، أولاهما بروز الصراع بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية وتأكيد الخلافات بينهما، وثانيتهما بداية الدعوات القائلة بضرورة عزل الغنوشي من منصبه رئيساً للبرلمان ومساءلته، فيما ذهبت دعوات أخرى إلى حد المطالبة بإسقاط البرلمان.
رؤوس "هيدرا"
في تعريف النظام السياسي في تونس، ينصّ دستور الجمهورية الثانية على أن نظام البلاد "شبه برلماني"، أي تتوزع فيه الصلاحيات والسلطات بين الرئاسات الثلاث (البرلمان، والحكومة، ورئاسة الجمهورية)، إلا أنه لم يُحسَم في بعض الصلاحيات بين هذه السلطات، ومنها الدبلوماسية.
وسط هذا التخبط في فهم النظام، لم يترك رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال كلمته بمناسبة عيد الفطر، المجال لأن يمر اتصال الغنوشي بالسراج دون تعليق، إذ انتقد هذا الاتصال ملمحاً إلى أن "تونس فيها رئيس واحد".
الخلاف بين سعيد والغنوشي لم يظهر فقط في المسألة الليبية وكيفية التعامل معها، بل لا ينفكّ قيس سعيد ينتقد النظام السياسي في تونس من ناحية الشكل الذي يعتبره معطلاً للتقدم، وفي عدة مرات طالب سعيد بتغيير الدستور وتحويل النظام إلى رئاسي، كما يؤمن بعدم الحاجة إلى برلمان في البلاد، وهو ما يعبر عنه هو خلال برنامجه الانتخابي بالديمقراطية المباشرة عبر المجالس المحلية.
لكن تبدو حركة النهضة الكتلة الكبرى في البرلمان، مع بعض الأحزاب الأخرى، رافضة لهذا التمشي من رئيس الجمهورية الذي لم يتقدم بمبادرة تشريعية في الغرض، إلا أن موقفه الرافض للأحزاب والدستور شكّل حاجزاً بينه وبينهم.
من هنا يستمدّ راشد الغنوشي قوته، إذ يؤمن كامل الإيمان بضرورة الإبقاء على النظام البرلماني في تونس، وضرورة وجود أحزاب قوية في البلاد للحفاظ على المشهد السياسي، مع أهمية توزيع المهامّ بين كل السلطات المعنية.
وأكّد في حوار له مع وكالة الأناضول أن "الاختلاف في بعض وجهات النظر لا يعني مطلقاً نزاعاً أو صراعاً، بل هو اختلاف طبيعي بزاوية النظر إلى بعض الملفات المطروحة، وفي تقدير بعض المواقف الطارئة وما يلزمها من إجراءات أو تحرّكات، وهو اختلاف محمود لأنّه يُثري في النهاية المقاربات الوطنية وخيارات الدولة وتوجّهاتها الكبرى".
وفي هذا الخضمّ تأتي دعوات أخرى للاعتصام أمام مقر البرلمان من أجل المطالبة بتنحي الغنوشي من رئاسة البرلمان ومساءلته.
دعوات الاعتصام
بناءً على اتصال الغنوشي بالسراج، تقدمت كتل "تحيا تونس" (14 مقعداً) و"قلب تونس" (29 مقعداً) و"الإصلاح" (16 مقعداً) و"المستقبل" (8 مقاعد)، في البرلمان التونسي، بلائحة تطالب بعقد جلسة حوار مع رئيس البرلمان لتوضيح مواقفه السياسية الإقليمية، بخاصة في ما يتعلق بالملفّ الليبي.
فتحت هذه اللائحة الباب أمام بعض الناشطين السياسيين لاستغلال اللحظة من أجل بداية الدعوة إلى اعتصام عُرف باسم "الرحيل 2"، ومن بين مطالبه مساءلة رئيس البرلمان وعزله عن موقعه، إلا أن الآراء انقسمت حول هذه المطالب بين فريقين من الداعين إلى الاعتصام.
فذهب السيد عماد بن حليمة، وهو محامٍ وناشط سياسي، إلى تنظيم اعتصام يبدأ يوم 1يونيو/حزيران 2020، يدعو من خلاله إلى عزل راشد الغنوشي من منصبه ومساءلته عن دوره الإقليمي، وهو ما لم ينجح فيه، إذ بعد ساعتين من بداية الاعتصام أعلن بن حليمة تعليقه بسبب عدم مشاركة سوى عشرات فيه.
أما الفريق الثاني فتقوده السيدة فاطمة المسدي، عضو سابق في البرلمان التونسي عن حزب نداء تونس، ويدعو هذا الفريق إلى الاعتصام يوم 14 يونيو/حزيران 2020 أمام البرلمان، من أجل المطالبة بحله نهائياً والاستفتاء على النظام السياسي في البلاد، والذهاب نحو انتخابات جديدة، ويساندها في هذه المطالب بعض الشخصيات السياسية التي خسرت مكانها في المشهد في انتخابات 2019.
الإعلام الإماراتي-السعودي على الخط
كعادتها، تحاول وسائل الإعلام السعودية والإماراتية استغلال هذه الأحداث من أجل محاولة زعزعة التجربة الديمقراطية في تونس.
إذ يبدو أن سلسلة الأخبار المضللة عن تونس في بعض القنوات العربية تتواصل في هذه الفترة، التي تعرف فيها تونس حراكاً سياسياً.
فقد أوردت قناة "العربية الحدث" السعودية خبراً كاذباً عن إضراب عامّ في تونس، للمطالبة بإقالة رئيس البرلمان ورئيس حزب "حركة النهضة" راشد الغنوشي.
والخبر لا أساس له من الصحة، بل إنّ الإضراب يعود إلى قطاع موظفي الصحة في محافظة صفاقس، على خلفية محاكمة بعض زملائهم بتهمة الاعتداء على نائب برلماني، وهو إضراب دعت إليه جامعة الصحة التابعة للاتحاد العامّ التونسي للشغل.
أما الإضراب العامّ فهو حدث كبير، إذ لم تعرف تونس طوال تاريخها بعد الاستقلال سنة 1956 إلا خمسة إضرابات عامة، أربعة منها حصلت بعد الثورة التونسية سنة 2011.
من جهة أخرى أثار تقرير نشرته قناة "الغد" الممولة إماراتياً، غضباً واسعاً في أوساط التونسيين، بسبب حديثه عن وجود "احتجاجات شعبية في تونس ضدّ تفشي البطالة وغياب سلع غذائية أساسية".
وكتب مئات من النشطاء التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات غاضبة ومنتقدة للتقرير الذي نشرته القناة، واعتبروا أنه "يضلّل الرأي العامّ ويشوّه صورة تونس".
وادّعى التقرير وجود مظاهرات في 7 محافظات تونسية، احتجاجاً على تفشي البطالة، وغياب مشاريع البنى التحتية، ونفاد سلع غذائية أساسية من المتاجر، وعدم توزيع السلع بشكل عادل على الفئات الضعيفة خلال فترة الحجر الصحي المفروضة ضمن تدابير مواجهة كورونا.
وأظهر التقرير مئات من المتظاهرين يجوبون شوارع البلاد، فيما قال نشطاء وتقنيون عبر مواقع التواصل، إن الصور المنشورة تعود إلى احتجاجات قديمة ليس لها علاقة بما أورده التقرير.
وأوضحوا أن "التقرير أظهر مظاهرة نفذها الأسبوع الماضي جماهير فريق كرة القدم بمحافظة بنزرت، شمال العاصمة تونس، احتجاجاً على أوضاع المنشآت الرياضية".
وطالب صحفيون الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي-البصري في تونس (الهايكا)، بـ"التحرك لوقف مثل هذه الإذاعات التي تزجّ بالبلاد في خانة صعبة".
ودعا آخرون إلى مقاضاة قناة "الغد" الممولة إماراتياً، ومطالبتها بالاعتذار إلى الشعب التونسي.
كما نشرت مواقع إخبارية تونسية مقالات رافضة لمحتوى التقرير، معتبرة أنه "فبركة وتزييف للواقع التونسي"، فيما سلطت أخرى الضوء على ردود فعل النشطاء على مواقع التواصل على تقرير القناة.