تابعنا
فضيحة التجسس التي هزت العالم مؤخراً لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فبرنامج التجسس إسرائيلي الصنع المسمى بيغاسوس يعود لتصدر عناوين الأخبار من جديد في فضيحة شملت اختراق أكثر من 50 ألف هاتف محمول حول العالم.

وتضمنت اختراق هواتف لشخصيات اعتبارية عالية المستوى من قبيل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والأميرة هيا بنت الحسين التي فرت من زوجها حاكم دبي الأمير محمد بن راشد.

جاءت هذه الفضيحة لتؤكد صورة دولة الاحتلال الإسرائيلي البشعة في انتهاك حقوق الإنسان، ليس الإنسان الفلسطيني وحسب، بل الإنسان حول العالم. فإسرائيل أصبحت رائدة تصدير البرامج الخبيثة التي تستعملها الحكومات وبعض الجهات الأخرى للتجسس وانتهاك خصوصية المستخدمين. فداخل إسرائيل تنشط مجموعة من الشركات التكنولوجية الأكثر شهرة حول العالم في مجال إنتاج البرامج التجسسية الخبيثة مثل شركة NSO المصنعة لبرنامج بيغاسوس ذائع الصيت، وشركة كانديرو (نسبة إلى سمكة كانديرو سيئة السمعة التي تقطن نهر الأمازون وتمتاز بقدرة على اختراق جسم الإنسان من المجاري التناسلية) والتي يعمل فيها العديد من ضباط وحدة الهجمات الإلكترونية في الجيش الإسرائيلي المعروفة باسم وحدة 8200.

وعلى الرغم من أن هذه الشركات هي كيانات خاصة، فإنه لا يمكن إسقاط مسؤولية الحكومة الإسرائيلية عن بيع مثل هذه البرمجيات، وما ينتج عنها من اختراقات وانتهاكات لحقوق المستخدمين المدنية. فهذه البرمجيات هي أسلحة من حيث المبدأ ولكنها أسلحة إلكترونية، ولذلك فهي تخضع مثلها مثل الأسلحة التقليدية لإجراءات صارمة في أثناء إبرام عقود البيع. في المجمل تخضع هذه الأسلحة لإجراءات موافقة متعددة المستويات. فالحكومة الإسرائيلية يجب أن تمنح الموافقة لبدء هذه الشركات إجراء مفاوضات البيع مع العميل، ومن ثم تمنح موافقة ثانية عند التوصل إلى اتفاق بين هذه الشركات والعميل، وأخيراً، تمنح موافقة عند إبرام البيع والتسليم.

لذلك فإن الحكومة الإسرائيلية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن جميع ما ينجم عن هذه البرمجيات من انتهاكات لحقوق الإنسان. ولكن نظراً إلى غياب نظام رقابة دولي صارم في ما يخص الجرائم الإلكترونية التي تنفذ برعاية الحكومات، فإن إسرائيل سرعان ما تجد السبل للإفلات من المسؤولية. فإسرائيل التي تمنح هذه الموافقات "عن طرف وجنب" لا تشغل بالها إطلاق قيم من قبيل حقوق الإنسان والخصوصية، وإنما ما يهمها هو الربح، خصوصاً أن العائد الناجمة عن بيع مثل هذه البرمجيات عالٍ جّداً. فدولة مثل غانا كانت قد دفعت مبلغ 8 ملايين دولار لشركة NSO الإسرائيلية من أجل أن تتجسس على 25 هاتفاً فقط لشخصيات معارضة للنظام، في حين دفعت المكسيك مبلغاً قدره 32 مليون دولار لكي تتجسس على 500 مستخدم، أما دولة بنما فقد دفعت مبلغ 13.4 مليون دولار لكي تتجسس على 150 مستخدماً.

إذاً، أمام شهية العائدات المالية الضخمة، تتضاءل المسؤولية الأخلاقية لإسرائيل في بيع مثل هذه البرمجيات. ليس هذا وحسب، فإسرائيل تستخدم هذه البرمجيات كأوراق محورية في جعبتها الدبلوماسية. فخارطة الدول التي كشفت عنها فضيحة بيغاسوس مؤخراً تظهر العديد من الدول التي سعت إسرائيل من أجل تحسين أو تطبيع علاقتها الدبلوماسية معها مثل المغرب والهند والإمارات وغيرها. ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق كان يعمل كأنه مندوب تسويق لهذه الشركات عند هذه الدول. ففي نهاية المطاف، ما يهم إسرائيل ليس حقوق الإنسان بل الاعتراف الدبلوماسي. فمنذ قيامها تعاني إسرائيل من عقد النقص المتعلقة باعتراف العالم بها، ولذلك فإنها مستعدة لبيع جميع التقنيات الخبيثة لديها لأي جهة مستعدة للاعتراف بها بغض النظر عن التبعات الأخلاقية الناجمة عن مثل هذه البرمجيات.

وعند الحديث عن الضرر الأخلاقي لهذه البرمجيات فإنها تتعدى مجرد التنصت على المستخدم من خلال اختراق جهازه، فجمع المعلومات عن المستخدم لا يتطلب ابتياع مثل هذه البرمجيات عالية التكلفة، وإنما يتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك، أي إلى تهديد الأرواح بشكل مباشر. فكلنا يتذكر حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، وكيف أن شهرة بيغاسوس قد بدأت منذ هذه الحادثة إذ تم تعقب هاتف خاشقجي عبر هذه التقنية وكذلك بعض الشخصيات المقربة منه مثل المعارض السعودي عمر عبد العزيز المقيم في كندا، ووضاح خنفر مدير عامّ شبكة الجزيرة سابقاً، وخديجة خطيبة خاشقجي.

تتذرع الشركات التكنولوجية من قبيل NSO الإسرائيلية، والحكومات، وكيانات إنفاذ القانون في الدول، بأن هذه البرمجيات ضرورية لتحقيق الأمن والحفاظ عليه، فهي في الأساس مُنتَجة لمكافحة المجرمين والإرهابيين. ولكن عندما يعود الأمر إلى الحكومات، فإن تعريف معنى الإرهابي غاية في الضبابية. فقد رأينا مؤخراً أن الكثير من الحكومات قد أدخل ضمن تعريفاته للإرهاب المعارضين السياسيين لها، وهذا الأمر لا يتعلق بالحكومات السلطوية وحسب، بل بالحكومات الأكثر ليبرالية في العالم كحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، التي صنّفت إبان ولاية الرئيس دونالد ترمب ناشطي حركة Black Lives Matter بأنهم إرهابيون.

ومع تنامي سياسة الهوية، فإن توسيع دائرة وصم الآخر بالإرهاب تتّسع، ويصبح بالتالي ضرر هذه البرمجيات خطيراً. فتنامي الإسلاموفوبيا في الغرب يُدخِل جميع المسلمين هناك في دائرة الاستهداف، ويصبح اختراق خصوصياتهم أمراً مشروعاً لدى هذه الجهات. والأمر لا يقتصر على الغرب وحسب، فالصين على سبيل المثال تتبع مجموعة من أنظم التجسس الأكثر فاعلية في العالم للتضييق على أقلّية الأويغور المسلمة من أجل ردعهم عن ممارسة حقهم الديني الذي كفلته جميع الشرائع السماوية والأرضية. ومن هنا يتضح حجم الخطر الذي تمثله إسرائيل في هذا المجال، وبالتالي ضرورة وضع حد لها قبل أن نكون عرضة جميعاً للتجسس الإسرائيلي، فجدران الحماية الإلكترونية العربية هشة بما فيه الكفاية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي