رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت مع وزير خارجيته يائير لبيد ووزير دفاعه بيني غانتس (Others)
تابعنا

صحيح أن الكفة ترجح حالياً لصالح الانحياز إلى الموقف الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً، لكن العين الإسرائيلية مسلطة على مصالحها العسكرية في سوريا، حيث يحوز الروس على سيطرة شبه مطلقة، ولم تكن الطائرات الإسرائيلية لتتمكن من الإغارة صباح مساء على أهداف إيرانية في قلب دمشق من دون وجود ضوء أصفر وربما أخضر قادم من موسكو.

مع العلم أن إسرائيل مثل بقية العالم تراقب تطورات الحرب الدائرة في أوكرانيا من كثب، وقد اعتمدت بشكل كبير على التقييمات الأمريكية بشأن نوايا الهجوم الروسي، ونتيجة لذلك أصدرت مبكراً أول تحذيرات لمواطنيها بعدم السفر إلى أوكرانيا وأمرت بإجلاء عائلات دبلوماسييها من كييف ودعت الإسرائيليين لمغادرتها في أقرب وقت ممكن.

على المستوى السياسي بدت الصورة الإسرائيلية أكثر تعقيداً بكثير، لأنه بعد بدء الهجوم الروسي يوم 23 فبراير/شباط أصدرت إسرائيل بياناً أعربت فيه عن "دعم وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها"، من دون الإشارة صراحة إلى روسيا، وفيما صرح وزير الخارجية يائير لابيد صراحة بأن "الهجوم الروسي على أوكرانيا انتهاك خطير للنظام الدولي" فقد أكد رئيس الوزراء نفتالي بينيت أهمية التركيز على الجانب الإنساني واستعداد إسرائيل لمساعدة أوكرانيا في هذا الصدد.

مع مرور الوقت جرى الإعلان عن محادثات هاتفية أجراها بينيت مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والروسي فلاديمير بوتين، ناقش فيهما إمكانية الوساطة الإسرائيلية، لكنها ليست عملية بالطبع لأكثر من سبب، لكن الأهم منها أن المعضلة الإسرائيلية حول كيفية التعامل مع حرب أوكرانيا تطلبت اتخاذ نهج حذر يتعلق بأخذ زيادة الوجود الروسي في الشرق الأوسط بعين الاعتبار، بخاصة في سوريا، مما يُلزم إسرائيل العمل على موازنة تداعياتها بشكل مباشر وأكثر تعقيداً على مصالحها الحيوية، وهو ما تفعله دول أخرى بالمنطقة كمصر وتركيا وبعض دول الخليج التي تربطها علاقات وثيقة بواشنطن.

بالنسبة إلى إسرائيل فإن محاولة تضييق خطوات إيران، وترسيخ وجودها في سوريا تتطلب تنسيقاً وثيقاً مع موسكو، إذ يتمتع النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا بتفاهم معها وإن لم يكن بلا حدود، لكنه ضروري من وجهة النظر الإسرائيلية في العمل المستمر ضد سياسة إيران الإقليمية التوسعية.

وإذا أضفنا إلى ذلك عدم التدخل الأمريكي في ظل حالة الانسحاب الجارية لها من المنطقة، فهنا يدرك الإسرائيليون ما يسمونه "لقاء المصالح" مع الروس، وبالتالي فقد يصبح مطلوباً من إسرائيل أن تزن محاولة روسيا لتغيير حدودها أو "إعادة التاج إلى مجدها السابق زمن الاتحاد السوفيتي والآثار المترتبة على مصالحها الحيوية، رغم أن إسرائيل في النهاية لم تخرج عن الموقف العام للمعسكر الغربي جنباً إلى جنب مع حليفتها الاستراتيجية وهي الولايات المتحدة الأمريكية.

تُطرح في محافل صنع القرار الإسرائيلي جملة تساؤلات تتعلق بإمكانية أن تؤثر حرب روسيا على أوكرانيا على الشرق الأوسط ومنها إسرائيل، لأن هذه المنطقة دوناً عن باقي مناطق العالم تعتبر الأسرع في الاستجابة للأحداث، وبينما ترى بعض بلدان المنطقة أن الحرب الأوكرانية تمثل خطراً على اقتصاداتها، يرى البعض الآخر وربما إسرائيل منها أنها قد تمثل لها فرصة، بخاصة في التأثير على الاتفاق النووي مع إيران.

مع العلم أن آثار الهجوم الروسي على أوكرانيا ظهرت محسوسة بالفعل في الشرق الأوسط، ومنها إسرائيل، ولعلها أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة ستتأثر بتقلبات الحرب، بخاصة أن الحرب الجارية قد تترك آثارها المباشرة على تحول الحدود الشمالية لإسرائيل مصدراً لتهديد أمنها لا سيما من سوريا، ولا عجب أنه قبل أيام قليلة من الهجوم الروسي، اختار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو زيارة دمشق، فيما أجرى سلاح البحرية الروسي خلال زيارته مناورة بحرية تهديدية في البحر المتوسط، وتضمنت التدريبات اقتراب طائرات روسية من القواعد الأمريكية شرقي سوريا وشماليها على الحدود الأردنية-العراقية.

في الوقت ذاته سبق اندلاع الحرب الأوكرانية إجراء الأمريكيين في شمال سوريا تمريناً مشتركاً لمشاة وناقلات جند مدرعة مع قوات PYD في دير الزور (شمال الفرات)، مما قد يحمل تقديرات وإن كانت مستبعدة مفادها أن يخوض الروس والأمريكيون وأعضاء الناتو اشتباكات عسكرية، وبينهما حلفاء الجانبين من السوريين والمجموعات المسلحة التابعة لإيران.

توقف الإسرائيليون مطولاً عند احتمالية أن تحظى سوريا بدعم ورعاية روسية لافتة من خلال القواعد العسكرية الروسية المنتشرة في أراضيها: البحرية في طرطوس والجوية في اللاذقية، بحيث يمكن أن تستخدم لشن هجمات في أوكرانيا، أي أن تعتبر سوريا قاعدة انطلاق للهجمات الروسية على كييف.

أياً كانت المقاربة الإسرائيلية من الحرب الروسية على أوكرانيا فإن التقدير السائد في تل أبيب أنها ستضطر في النهاية إلى اختيار موقف واضح فاعل وجلي في الحرب الدائرة، أخذاً بعين الاعتبار أنها تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها أقوى حليف لها، لكن يوجد أيضاً تحسُّب كبير لموقف روسيا.

مع العلم أنه ما بدا حتى قبل أسبوع فقط ازدراءً ساخراً لبعض الأوساط الإسرائيلية لبوتين، فإنه منذ إطلاق القذيفة الأولى باتجاه أوكرانيا بدا مختلفاً تماماً، إذ خاض القيصر الروسي بالفعل ما تسميه إسرائيل "حربه ضد العالم"، ما قدم صورة مقلقة للغاية لدى دوائر صنع القرار الإسرائيلي ودفع رئيس الوزراء إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس الوزراء السياسي والأمني ​​لمناقشة تداعيات الحرب شرقي أوروبا على إسرائيل.

هذا لا يخفي أن إسرائيل عاشت في هذه الحرب ما يمكن أن توصف بأنها "معضلة" لم تكن تتمنى أن تشهدها، بين كونها حليفاً أساسياً للولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته صعوبة التعبير عن إدانة روسيا، ولا حتى بالتلميح، كونها تمسك في قبضتها بالساحة السورية، ولذلك ظهرت إسرائيل كأنها "تتلعثم"، وهي تراوح بين الموقفين، بخاصة أن ما يتسرب من تقديرات إسرائيلية تتحدث أن بوتين، صحيح أنه غض الطرف عن الضربات الإسرائيلية ضد القواعد الإيرانية في سوريا، لكنه في الوقت ذاته أظهر دعماً لتحالف الأسد وإيران في مواجهة المعارضة السورية المسلحة، وصحيح أنه أبعد الإيرانيين عن الحدود مع فلسطين المحتلة بخاصة في الجولان السوري المحتل، لكنه حرص على إبقائهم على نار هادئة، وفق التوصيف الإسرائيلي.

هذا بالضرورة سيترك تبعاته السلبية على ما "أنجزته" إسرائيل في السنوات الأخيرة من صياغة مسار لافت في سياستها الخارجية، بخاصة أن الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً يُظهرون تفهماً نسبياً لحاجة إسرائيل إلى التحدث مع الكرملين، لا سيما في ضوء علاقات الجوار بين إسرائيل وروسيا داخل جارتها الشمالية في سوريا، فضلاً عن وجود مليون ناطق بالروسية في إسرائيل يمثلون جسراً ثقافياً بين موسكو وتل أبيب، وعلاقات تجارية مزدهرة تبلغ قيمتها ثلاثة مليارات دولار في السنة.

في الوقت ذاته يوجد تضارب مصالح بينهما وهما يحاولان ترسيمها، ولكن في حال تصاعدت الحرب الروسية-الأوكرانية فسوف تجبر إسرائيل على إعادة النظر في سياستها الحالية، وقد تطلب منها إدارة بايدن بشكل أكثر صرامة مما كانت عليه في الماضي الانحياز إليها والانضمام علناً إلى المعسكر الغربي في إدانة روسيا، وربما قطع العلاقات معها، وبالتالي فإن رفض إسرائيل ذلك سيزيد سلسلة الخلافات مع واشنطن حول الملف النووي الإيراني والقضية الفلسطينية والصادرات السيبرانية الهجومية وغير ذلك.

يتخوف الإسرائيليون مما يسمونه سيناريوهات التصعيد بالمنافسة بين القوى العظمى، وأين ستكون مواقفهم، وكيف سيصيغون سياساتهم الخارجية تجاهها، على اعتبار أنه يمكن إنشاء وضع قائم جديد وغير مريح لهم قريباً بالعلاقات بين هذه القوى العالمية، وأي موقف إسرائيلي واضح من الحرب الأوكرانية يعني احتمالية تآكل الثقة بين إسرائيل وحلفائها، بخاصة ونحن نشهد ما تصفه المحافل الإسرائيلية بـ"عصر المنافسة الشرسة بين القوى".

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً