تابعنا
على غير العادة، دأبت حماس في الأيام الأخيرة على كشف مزيد من عملياتها السرية التي تخوضها مع إسرائيل بعيداً عن الإعلام.

فقد منحت لعدة قنوات تلفزيونية معلومات استخبارية تنشر لأول مرة عن ما تعلق بفشل القوة الإسرائيلية الخاصة في غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بجانب بعض تفاصيل لافتة عن تجنيدها عميلاً مزدوجاً في 2016 قام بتضليل الجيش الإسرائيلي عن أماكن الصواريخ في غزة.

جاء الكشف الأول في برنامج "ما خفي أعظم" الذي بثته قناة الجزيرة، وتحدث عن فشل القوة الإسرائيلية الخاصة التي تسللت إلى قطاع غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، واكتشاف كتائب القسام الجناح العسكري لحماس لها، وقتل قائدها وإصابة آخرين، ما أحدث زلزالاً في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، على اعتبار أنها من المرات النادرة التي يُكتشَف فيها مثل هذه القوة التي تمثل نخبة النخبة في الاستخبارات الإسرائيلية.

أما الكشف الثاني، فقد تحدثت عنه قناة الميادين عبر فيلم"سراب"من خلال معلومات منحتها إياها جهاز الاستخبارات العسكرية التابع لكتائب القسام، حول عملية تجنيد لعميل مزدوج نجح في تضليل المخابرات الإسرائيلية فيما يتعلق بأماكن صواريخ المقاومة في غزة.

لم يُعهد على حماس خلال ثلاثين عاماً منذ تأسيسها أن تداولت مثل هذه المعلومات السرية الحساسة عبر وسائل الإعلام، بل بقيت حبيسة الصدور حتى يومنا هذا، وهو أمر مشروع ومتفهم في ظل صراع أمني حامي الوطيس تخوضه الحركة مع أجهزة الأمن الإسرائيلية.

لكن الاستدارة المفاجئة التي قامت بها حماس بالإفراج عن هذه المعلومات يطرح تساؤلات حول التحول في سياستها الأمنية والاستخبارية: فهل تريد حماس تهشيم صورة المخابرات الإسرائيلية المتضررة أصلاً؟ أو تحاول ترسيخ صورتها النمطية لدى الرأي العام الفلسطيني كقوة أمنية محصنة تسجل نقاطاً على إسرائيل؟ وألا تخشى حماس من تسرب بعض المعلومات الأمنية ببث هذه البرامج؟ وكيف سينعكس هذا الجهد الأمني من حماس على السلوك الإسرائيلي تجاهها في غزة؟

من الأكيد في العلوم العسكرية أن أي هجوم فدائي مسلح يبدأ بمعلومات أمنية واستخبارية، ولئن جرت العادة أن تعلن حماس عن تنفيذ جملة من العمليات المسلحة، فإنها من المرات النادرة أن تتبنى تنفيذ عملية أمنية استخبارية، وهو ما يحمل جملة رسائل موجهة إلى مسارات داخلية وخارجية عدة.

تعتبر حماس أن ما كشفت عنه من معلومات إحدى أوراقها القوية في حرب العقول التي تخوضها مع إسرائيل، ولئن كُشف عن تفاصيل عمليتي "حد السيف" في خانيونس و"السراب" في غزة، فهما ليستا أولى العمليات، ولن تكونا الأخيرتين في إطار هذا الصراع الممتد بين الجانبين.

تتحدث المعلومات التي كشفت حماس عنها عن القدرة العالية للمقاومة وأجهزتها الأمنية على الخداع والتضليل للأجهزة الإسرائيلية، ويتضح هنا أن هذه العمليات الأمنية لا تأتي في إطار رد الفعل، وإنما ضمن الرد المبادر إليه، كجزء من المعركة الخفية المستمرة مع إسرائيل.

كشفت هذه المعلومات عن قدرة استخبارات حماس على التعاطي المبكر مع العميل الذي جندته إسرائيل واستيعابه ثم تجنيده لصالح حماس، مما يعكس تفوقاً أمنياً واضحاً، نجح في كشف النوايا والمخططات الإسرائيلية وإحباطها، لا سيما ونحن أمام عامين كاملين من التضليل المستمر من قبل هذا المصدر الأمني، من خلفه استخبارات حماس، من دون أن تكتشف المخابرات الإسرائيلية ذلك.

كما تكشف هذه العمليات الأمنية القدرات العالية لدى الطاقم العامل بأجهزة أمن المقاومة، من خلال الإدارة الذكية التي تؤكدها المحادثات بين المصدر الفلسطيني ومشغليه الإسرائيليين، وحصلت عليها حماس، كما تعكس نمط التوجيه والتحكم الذكي في المصدر، وتمريره رسائل الخداع لأجهزة الأمن الإسرائيلية، وهو ما كشف عن أساليب عمل المخابرات الإسرائيلية في غزة، وطريقة اختياره لما يعرف بـ"النقاط الميتة" التي يرسل إليها الأموال والمعدات اللازمة لعملائه.

لقد هدفت حماس من كشفها عن هذه المعلومات إلى كسر الصورة النمطية لضباط الأمن الإسرائيليين، وتبديد نموذج "السوبر" المأخوذ عنهم، وفي الوقت ذاته تعزيز الثقة بقدرات المقاومة في جهدها الاستخباري، علاوة على تفوقها العسكري، لأننا أمام سابقة إعلامية يُفرَج فيها عن هذا الحجم من التسجيلات والصور والوثائق السرية.

الإسرائيليون من جهتهم قرأوا سلوك حماس الجديد بالكشف عن معلومات أمنية حساسة بأنه إمعان منها في تحديها المخابرات الإسرائيلية، من خلال خوضها حرباً سيكولوجية ضدها، وإظهار حالة الفوضى التي تعيشها عقب تكرار الفشل الأمني الذي وقعت فيه بغزة.

ولذلك يبدو واضحاً أن الجهاز العسكري لحماس أقام منظومة دعائية آمنة لإدارة رسائله الإعلامية، فبعد مرور أكثر من عام على إعلان الفشل الإسرائيلي في غزة، لا تزال حماس ترى فيه إنجازاً أمنياً لها، وتواصل عصر حبة الليمون حتى الرمق الأخير ضمن حربها النفسية الموجهة ضد إسرائيل، بإظهار التخبط الذي تعيشه وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي، إلى الدرجة التي دفعت الحركة لإحياء ذكرى انطلاقتها الثانية والثلاثين على وقع هذا الإنجاز الأمني، التي جاءت بعنوان "بحد السيف بددنا الزيف".

أكثر من ذلك، فإن هدف حماس من الكشف المتكرر لعملياتها الأمنية السرية إثارة المزيد من العاصفة داخل إسرائيل، والاستفادة من ردود فعلها، لعلها تحصل على مزيد من المعلومات، على الرغم من الحظر الكامل للرقابة العسكرية الإسرائيلية على كل نشر بهذا الموضوع، لكن حماس تجاوزت الرقابة ونشرت الصور والتسجيلات الصوتية لضباط الاستخبارات الإسرائيلية، وتتابع من كثب شبكات التواصل الإسرائيلية والحسابات الشخصية للحصول على كل معلومة مهما صغرت.

لقد شكّل كشف حماس عن بعض عملياتها الأمنية نقطة تحول استراتيجية في عمل جهازها العسكري، بخاصة لدى منظومة الاتصالات الأكثر سرية في الحركة، وقد بنت لنفسها منظومة دفاعية أوتوماتيكية، مما يجعلها عرضة للاستهداف الإسرائيلي بين حين وآخر.

صحيح أن الجيش الإسرائيلي استخلص الدروس من فشل عملياته الأمنية الأخيرة في غزة، ويعمل على تقليص الأضرار الناجمة عنها، لكنه تعرّض لهزة أرضية لا تزال تردداتها باقية حتى كتابة هذه السطور، ما يجعله أكثر حذراً من القدرات الاستخبارية لحماس، بخاصة منظومة الاتصالات التي تسعى جاهدة للابتعاد عن الرادار الإسرائيلي الهادف إلى التنصت عليها، ويجعلنا أمام حرب عقول استخبارية وتكنولوجية من العيار الثقيل.

الرقابة العسكرية الإسرائيلية من جهتها، انطلقت في تعاملها مع ما كشفته حماس في الأيام الأخيرة من عدم تعميم الصور والتسجيلات الصوتية التي نشرتها حماس لعناصر القوة الإسرائيلية، لأن ذلك من شأنه إحراج إسرائيل، وجمع المزيد من المعلومات الأمنية، وبدا واضحاً أن حماس أرادت من نشر صور الوحدات الأمنية الإسرائيلية وتسجيلاتها خوض حرب نفسية ضد إسرائيل، بحيث يُتَلاعب بالمعلومات التي قد تتوفر لها.

لا تخفي حماس أن هدفها الأساسي من هذا الكشف هو إحراج إسرائيل، وأن ما كان عملية سرية كُشف، وما كان مجهزاً كي ينجح فشل، من خلال التعرف على هويات أفراد الأمن الإسرائيليين، وتحويلهم من شخصيات ملاحِقة إلى أن يكونوا ملاحَقين، يخشون على مصيرهم.

أما الهدف الثاني، فيتمثل في جمع المزيد من المعلومات الأمنية، مما يمنح حماس القدرة على توظيفها، وتأمل أن يقوم الإسرائيليون بالتعاون وكشف الأسماء، والهدف الفوري هو محاولة تشخيص هويات العناصر التي كشفت صورهم وأصواتهم من خلال الحصول على أسمائهم، وأين يسكنون، ومن أصدقاؤهم، والتشويش على هدف الرقابة العسكرية الإسرائيلية الساعية للحفاظ على كنوز أمنية واستخبارية وعملياتية غاية في الأهمية.

من يتابع الفيلمين اللذين أمدتهما حماس بمعلومات حصرية، يخرج بخلاصة أننا أمام إخفاقات إسرائيلية عميقة وثغرات عملياتية كارثية وأوجه فشل قاسية وقع فيها أفراد الوحدات الأمنية الخاصة، على الرغم من أنهم حصلوا سابقاً على جوائز وأوسمة تكريمية، لكن هذا الأمر لم يحصل في غزة.

كما يكشف الفيلمان الأخيران عن جوانب إخفاق تتعلق بالتخطيط للعمليات ذاتها من الأساس، مرورا بالإشراف على التنفيذ في مختلف مراحله على الأرض، وعدم توقع الظروف غير الملائمة التي قد تقع فيها هذه الوحدات، وتذهب بها إلى أوضاع غير ملائمة البتة، لا سيما للمقاتلين على الميدان.

من المتوقع أن يسفر بث هذين الفيلمين الأمنيين عن طرح جملة تساؤلات إسرائيلية، قد لا تكون عبر الإعلام، لمعرفة ما الذي حصل بالضبط، وأين وقع الشرخ، ومعرفة الثغرات والسقطات التي وقعت فيها المخابرات، لأننا أمام عملية معقدة حصلت في صلبها، ولا تزال الهزة الأرضية متفاعلة داخل المنظومة، بدليل الإطاحة ببعض رؤوسها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي