فرقة حاملو النعوش من غانا (Others)
تابعنا

تقوم هذه الفكرة حول محاولة استنساخ رقمي لأحد الموتى من خلال الاستحضار الكثيف للبيانات التي كان هذا المتوفى يقوم بإنتاجها في أثناء حياته بشكل يومي والمنتشرة على الإنترنت، وتتضمن على سبيل المثال الرسائل النصية، ومقاطع الصوت والفيديو، والصور، وغيرها.

إنها محاولة لإعادة تعريف الموت والحياة، وصياغة إدراك جديد لمعنى الفقد. فالميت الذي ذهب بروحه وجسده، ما زال حاضراً من خلال كيانه الرقمي الـAvatar. ومن خلال بعض تقنيات الذكاء الصناعي أو الطابعة ثلاثية الأبعاد، يمكن بثّ حياة إلكترونية في جسد هذا الـAvatar لكي يحاكي حياة ذلك المتوفى ويجعله قادراً مع التدريب المتكرر على إعادة الاندماج في محيطه الحيوي متفاعلاً مع أحبائه السابقين.

يأخذ شكل إعادة الإحياء الرقمية أو الاستنساخ الرقمي هذه، وإن كانت ما زالت شكلاً من أشكال الخيال العلمي، جانباً واحداً من الكثير من الجوانب التي بات الفضاء الرقمي يؤثر فيها على حيواتنا ومدى تفاعلنا معها، خصوصاً في ما يتعلق بمعانٍ مصيرية كالموت والحياة. إن حجم البيانات التي بتنا ننتجها يومياً على الإنترنت يمنح العديد من التقنيات القدرة على تخليدنا، إلى حد كبير، رقمياً. ربما تكمن الغاية الأخيرة من هذه التقنيات في محاولة منحنا كبشر مساحة أرحب لإعادة التعاطي مع الحزن، والتغلب على فاجعة الفقد، وتخفيف حدة الأسى والمعاناة.

تُعتبر فيسبوك الأبرز من بين شركات تكنولوجيا المعلومات في التعاطي مع هذه الظاهرة. فمن خلال Legacy Contact، أو حتى Memorizing Account، تحاول الشركة إدارة حسابات المتوفَّين بطريقة تحفظ ما بين ذكرياتهم، وتفاعل هذه الحسابات مع المتابعين. فمن خلال Legacy Contact يستطيع المستخدمون إدارة ملفاتهم الشخصية بعد وفاتهم، وبالتالي تجنُّب إثارة الأحباء أو الأقرباء غير الضرورية. ومن خلال هذه الخاصية يمكن لجهة الاتصال القديمة، على سبيل المثال، تغيير صورة الملف الشخصي ونشر التحية، ولكن لا يمكنها بطبيعة الحال تقديم طلبات صداقة جديدة أو قراءة الرسائل.

بعض شركات التكنولوجيا الأخرى لديها وجهات نظر مختلفة تماماً حول الهرب أو البقاء في شرك الإنترنت بعد الموت: على سبيل المثال، ليس لدى Twitter أدوات لنقل حساب أو بيانات عندما يموت شخص ما، في حين يمكن لـInstagram، المملوك لـFacebook، تجميد حساب المتوفى، ولكن لا يسمح لأي شخص بإدارته (مما قد يكون مفيداً في تنظيم أي نوع من الذكريات)، في حين أعلنت Apple مؤخراً أن تحديثها iOS 15 سيسمح للمستخدمين بتسمية جهات الاتصال القديمة بعد قضاء سنوات في مطالبة أحبائهم بتقديم التماس للمحكمة من أجل إعادة الوصول إلى حساب المتوفى. وعلى صعيد متصل، يمكن لشركة Google حذف حساب مستخدم تلقائياً إذا كان غير نشط لفترة زمنية محددة مسبقاً، وهو ما يعني وفقاً لخوارزمياتها أنه أصبح في عداد الموتى.

تشتبك هذه التقنيات مع رغبة الإنسان الأزلية في الخلود، فهذه الفكرة، أي الخلود، تنمو معنا منذ نعومة أظفارنا عبر مسلسلات الرسوم المتحركة التي تحكي عن قصص حول كيف يمكن أن يؤدي تناول بعض الأطعمة أو الأشربة أو حتى عمل بعض التعويذات إلى جعل الإنسان خالداً في حياته. ولكن بالنسبة إلى هذه التقنيات التكنولوجية، لا يبدو أن الأمر سوف يصل إلى هذا المستوى من الحال. فالوقت يُعَدّ مبكراً للحكم على قدرتها ومدى نجاحها في هذا المضمار. فإعادة التذكير ببيانات المتوفى أو صناعة إسقاط رقمي عنه كما في شخصية أيرس من مسلسل Nightflyers قد تعمل بشكل مختلف على إدامة الشعور بالحزن لا التخفيف منه. فالشعور بالحزن من شأنه أن يضمر مع مرور الوقت، وإعادة التذكير الرقمية قد لا تبدو فكرة جيدة. إن تأبيد البيانات الرقمية عن المستخدمين المتوفَّين تعمل كمحفز الحزن والأسى في هذه الحالة، وهو ما من شأنه أن ينتج لنا مجتمعات حزينة وكئيبة. ومن نافلة القول التذكير بأن مثل هذه الكآبة الجماعية لها تداعيات وخيمة على تقدم المجتمع وازدهاره.

في المحصلة، وبدلاً من التخفيف على الإنسان الذي تَعرَّض لفاجعة بموت حبيب أو قريب، تقوم هذه التقنيات باستدامة حزنه وأساه. ولذلك اختار مستخدمو الأدوات الرقمية خصوصاً من جيل Z أن يعيدوا النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، ليس من زاوية الأداة كما ذُكر آنفاً، ولكن من زاوية الاستخدام والتفاعل، أي التعبير عن الموت وما ينتجه من حزن بطريقة مختلفة هي طريقة الرقص والبهجة. وهو أيضاً تعبير من شأنه أن يشوّه هذه الخاصية الإنسانية التي غالباً ما يكون لها انعكاس على التآلف في المجتمع.

على سبيل المثال، شارك مراهق مقطع فيديو لنفسه على TikTok وهو يرقص مستخدماً إيماءات متزامنة بين يديه وشفتيه على صوت أنغام أغنية، وفي الخلفية يقبع جده مستلقياً على فراش الموت، في حين تظهر جدته تبكي. هناك أيضاً مقطع لشقيقتين تعبّران بطريقة هزلية عن وفاة والدتهما بالغناء والرقص، أو تلك المرأة التي تمتطي تابوتاً لمتوفى وتقوم بالرقص عليه بطريقة لا تخلو من الإيحاءات الجنسية فيما يتفاعل معها الحاضرون بحماس. قد يقول البعض إن هذا التصرف يأتي ضمن عولمة الثقافات، فبعيداً عن الثقافات التي تجعل من الموت فاجعة كئيبة وحزينة، تجعل ثقافات أخرى من الموت مناسبة للاحتفال والرقص. يمكن فقط أن نرى على سبيل المثال الشهرة الكونية التي حظي بها حاملو النعوش من غانا الذين يأخذون المتوفى إلى قبره بالرقص والغناء.

حذّر بعض الكتاب من أمثال أمين معلوف من أن العالم يتجه من طور العولمة عن طريق الهيمنة إلى طور العولمة عن طريق التفاهة. ولذلك فهم يرون أن هذه النوع من العولمة أو من "الانسجام" من شأنه أن يخلق تحديات جوهرية للثقافات المحلية، ويعزّز التصدعات الثقافية في العالم. في المقابل يرى آخرون أن مثل هذا التعبير عن الحزن الذي يأخذ طابعه المعولم من خلال منصات التواصل الاجتماعي يعزز التنوع الثقافي. فبعيداً عن ثقافة الأديان السماوية المركزية التي تعتبر الموت فاجعة ومصدراً للحزن، ترى فيه ثقافات أخرى عنصر رقص وغناء، وهو ما يجب الالتفات إليه.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي