صورة لحرائق الأرض نشرتها وكالة ناسا (NASA)
تابعنا

في السابق ولفترة قريبة كان كثيراً ما يتواتر في وسائل الإعلام تلك الكليشيهات التي تتحدث عن "العالم يتغير"، أو "العالم يدخل مرحلة جديدة". وقد أدلت حتى مصانع إنتاج الأفلام بدلوها، فعشرات الأفلام الهوليوودية تضمنت تلك العبارة التي ينطقها أبطال تلك الأفلام بطريقة التوكيد اللفظي وتدور حول Changing the World. غير أن جائحة كورونا وضعت العالم أمام الحقائق المجردة بعيداً عن فانتازيا الإعلام والأفلام، ثم جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتجعل من هذه الحقائق كابوساً حقيقياً، وليكون التغيير بعيداً هذه المرة عن مراحله التدريجية ليقترب أكثر من مراحله الدراماتيكية.

ولا يسعنا إلا أن نضيف التغير المناخي إلى خلطة العالم المتغير دراماتيكياً، فالأرض التي كانت تتعرض لانتهاك صارخ من الإنسان على مدار مئتَي عام هي عمر الثروة الصناعية، قد أعلنت حربها على هذا الإنسان عبر الفيضانات والحرائق التي تضرب العديد من الأرجاء، فأوروبا الباردة تحترق، ودول الخليج الحارة تغرق بالأمطار.

بعض الكلمات المفتاحية في الفترة المقبلة ستكون بمثابة شفرات لفهم موجات التغير وطبيعتها، وألخصها بثلاث: الجوائح، والجيوبوليتيك، والطاقة. وبطبيعة الحال هنا نتحدث عن معانٍ عريضة ينضوي تحتها كثير من التفاصيل.

فالجوائح في هذا السياق تشمل أنواعها كافة، الصحية منها مثل كوفيد-19 وجدري القرود، والبيئية كالفيضانات والحرائق وشح المياه وغيرها. وهي جوائح عابرة للقارات وتخصّ الإنسانية جمعاء. ولا يقتصر تحمل مسؤوليتها على عاتق أمة دون أخرى.

الإشكالية في هذه الجوائح أن التغلب كاملاً عليها بات خياراً غير قابل للتحقق حاليّاً، ومن هنا فالأنظار تتجه نحو الخيارات الأكثر عقلانية مثل تلك التي تتعلق بتخفيف أضرارها واحتواء آثارها الجانبية، فجائحة كورونا ما زالت حاضرة بقوة، وأعداد المصابين في ازدياد. وحتى أولئك الذين أخذوا جرعات التطعيم أصيبوا بها مرة وربما مرات عدة. هنا يبرز مثال الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أُصيبَ بالمرض مؤخَّراً رغم حصوله على جرعات المضاد كاملة.

ما يمكن أن يُقال بخصوص الجوائح الصحية، يمكن أن يُقال أضعافه بخصوص الجوائح البيئية، فلا يمكن حقن الأرض بمضادات وقائية لتخفيف حدة غضبها، فجميع الحلول المطروحة حاليا لمكافحة التغير المناخي هي حلول طويلة المدى، وهذا يعني أن جميع هذه الإجراءات الوقائية يمكن أن تفشل أو يمكن أن تكون متأخرة، وبذلك سوف تتدحرج الحياة على الأرض إلى واقع أكثر قتامة.

ويقول فعلاً كثير من الأصوات إن معركتنا مع التغير المناخي خاسرة، فحتى الآن وعلى الرغم من مأساوية المشاهد التي يراها العالم بهذا الخصوص، ما زالت الدول الكبرى غير متفقة على آلية وسياسة واحدة لمجابهة ظاهرة الاحتباس الحراري.

أما الجيوبوليتيك، وهو المفهوم الذي صدّرَته السياسة الألمانية إبان حكم بسمارك، فيُعلي المصلحة القومية للدول ويضعها فوق أي اعتبارات أخرى. هذا يتضمن أن محركات سياسية أخرى كحقوق الإنسان والديمقراطية سوف تتراجع إلى الوراء في الفترة المقبلة، وإن كانت ستبقى حاضرة في خطابات بعض الدول الغربية للاستهلاك الثقافي والأخلاقي.

أجّجَت الحرب الروسية على أوكرانيا من مفهوم الجيوبوليتيك، فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تجد أوروبا نفسها أمام تغيير للخرائط بفعل القوة. لقد ذهب الكثير من منظّري السياسة إلى اعتبار أن الحروب بين الدول قد أصبحت ظاهرة من الماضي. وبطبيعة الحال وبما أن هؤلاء المنظرين من إنتاج الحضارة الغربية، فقد رأوا الحروب التي جرت في مناطق أخرى في العالم كالشرق الأوسط من باب الاستثناء الذي يعزز القاعدة. ولكن اليوم تبدو فرضياتهم هذه ضرباً من ضروب البذخ الفكري. فروسيا-بوتين أثبتت أن الحرب لم تعُد ظاهرة تاريخية، بل ظاهرة يتم إعادة إنتاجها على أعتاب كل معترك تاريخي، وتُستخدم كأداة لإعادة رسم الخرائط، وهي العملية التي قامت عليها دعائم النظام الدولي منذ أكثر من 500 عام، وكانت سبباً لعديد من الحروب.

هناك من يؤمل النفس أن تكون خطوة بوتين مجرد قفزة مساومة مع الغرب وليست امتداداً لاستراتيجية روسيا التاريخية المتعلقة بشهوة التوسع. حتى اللحظة تدعم المؤشرات أنها ليست مجرد قفزة بالهواء، بل استراتيجية توسُّع مبنية على قناعة راسخة لدى صناع القرار في موسكو، وإلا لاكتفى الكرملين بضمّ شبه جزيرة القرم. وبذلك سوف تفتح هذه الاستراتيجية الباب لتكرارها من طرف دول كبرى أخرى، خصوصاً أن النظام الدولي يشهد الكثير من النزاعات الحدودية التي سوف تحفز الطامحين إلى إعادة رسم الخرائط.

واحدة من أبرز البؤر الساخنة دولياً هي جزيرة تايوان. لا تُخفي الصين رغبتها الدائمة في ضمّ الجزيرة إلى البرّ الصيني، على قاعدة عودة الابن الضالّ. هذه بالنسبة إليها ليست مجرد قطعة من الأرض تُضاف إلى البر الصيني الضخم، بل علامة على تأهُّل الصين لممارسة دور الدولة الكبرى المهيمنة في نصف الكرة الشرقي وصاحبة الوصاية عليه.

تعي الولايات المتحدة ذلك، لذلك تؤكّد المرة تلو الأخرى تعهداتها بحماية أمن واستقلال تايوان، وتنحو بعيداً وإن كان بشكل تدريجي عن سياسة الغموض البنَّاء. هناك أيضاً النزاع بين الهند وباكستان، وكلتاهما دولة نووية، على إقليم كشمير، وبريطانيا والأرجنتين على جزر فوكلاند، وغيرها من الأمثلة كثير.

أخيراً، قفزت الطاقة لتتصدر الأجندات الدولية، ودخلت بقوة لتكون المادة الرئيسية في لعبة عضّ الأصابع ما بين روسيا والغرب. دفعت أوروبا الفاتورة الكبرى، وباتت الأصوات هناك تتجه نحو الصراخ رويداً رويداً. وما كان يبدو أنه إجماع غربي ضد روسيا، بدأ يتصدع على وقع أسعار الطاقة، والتضخم، والتخوفات من كساد اقتصادي كبير. فألمانيا لأول مرة منذ ثلاثة عقود تسجّل عجزاً تجاريّاً، ويمكن أن يتراجع اقتصادها حتى نهاية العام بواقع ست درجات. كما سجل الاقتصاد الأمريكي تراجعاً أيضاً. وقد كان للأزمات الاقتصادية أصداؤها في الغرف السياسية، فلم تشفع لرئيس الوزراء البريطاني مواقفه المناهضة للغزو الروسي من تقديم استقالته، في حين تهاوت حكومة ماريو في إيطاليا. وهناك تخوفات أن تدفع أزمة الطاقة وما ينتج عنها من كساد اقتصادي محتمَل، تيارات اليمين في أوروبا لتصدر المشهد السياسي، وهي تيارات قريبة تقليدياً من الكرملين، وضد وحدة أوروبا.

ستلعب الطاقة إذاً دوراً جوهرياً في إعادة رسم الخرائط السياسية سواء الداخلية منها والخارجية. صعود تيارات اليمين في أوروبا لن يكون حدثاً عابراً في ظل قوى التصدع الداخلية التي تدفع باتجاه تفجُّر الاتحاد من داخله. غير أن الأمر لا يتعلق بأوروبا وحسب، فالسياسة الجيو-طاقوية سوف تعمل على إعطاء دور أكبر للدول المصدّرة للطاقة في السياسة الدولية مثل السعودية وفنزويلا وإيران. فالسعودية التي حاولت إدارة الرئيس بايدن تقليل أهميتها لاعتبارات تتعلّق بملف حقوق الإنسان، تعود إلى الواجهة، وذلك من خلال المطالب الغربية المتواصلة للرياض من أجل رفع إنتاجها من الطاقة لسد النقص الحاصل بسبب العقوبات المفروضة على روسيا. فوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان الذي استقبل بايدين في قمة الرياض مؤخراً، يتصدر عناوين الصحف من خلال رحلته إلى أوروبا ولقائه زعماء اليونان وفرنسا وتوقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والطاقوية.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي