المسيرة التركية بيرقدار أقنجي تيها وفي خلفية الصورة الرئيس أردوغان  (AA)
تابعنا

بتفصيل أكثر، أكدت الأزمة الأوكرانية صوابية السياسة التركية المتبعة منذ عقدين تقريباً، والقائمة على استقلال القرار السياسي والاقتصادي، واتخاذ السياسات استناداً إلى حاجات ومصالح البلاد، إضافة طبعاً إلى الاستقلال في بعده العسكري بمعنى تصنيع الأسلحة والعتاد وتحديداً الأساسية منها حفاظاً على السيادة بالمعنى الدقيق للمصطلح وعدم الارتهان إلى القوى الخارجية ومصالحها.

بدت الأزمة الأوكرانية تعبيراً مباشراً ودقيقاً عن الحقائق والمعطيات السابقة، ولذلك امتلكت تركيا الشجاعة والقدرة على تبني مبدأ الحياد الإيجابي فرفضت الهجوم الروسي والخيار العسكرى بشكل عام، وأكدت مراراً وتكراراً على وحدة وسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها احتراماً للمواثيق والقوانين الدولية ذات الصلة بما في ذلك التطبيق النزيه والأمين لاتفاقية "مونترو" نصاً وروحاً، وبالتالي منع مرور السفن الحربية عبرها سواء الروسية والأوكرانية أو التابعة للدول المشاطئة للبحر الأسود أو حتى غير المشاطئة، وذلك منعاً للتصعيد واتساع الحرب وذهاب الأمور نحو الأسوأ، علماً أن تركيا فعلت ذلك دون الصدام مع روسيا أو مقاطعتها والانخراط في العقوبات ضدها، مع إبقاء الأجواء مفتوحة أمامها وذلك دفاعاً عن المصالح القومية للبلاد، كما البقاء في مربع الوسيط والنزيه والجدي على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي الأسمى المتمثل في وقف الحرب والدمار، وجلب الطرفين إلى طاولة المفاوضات من أجل التوصل إلى حلول سياسية عادلة ومستدامة للخلافات بينهما.

بالطبع هذا ما كان ليتحقق لولا المنحى السيادي الاستقلالي للسياسات التركية متعددة الأبعاد والاتجاهات، والإصرار على اتخاذ القرارات وفق حسابات تعطي الأولوية للمصالح الوطنية، ورغم عدم رضا أمريكا و"بعض أوروبا" عن تلك السياسات إلا أنها لم تجد خياراً سوى تقدير واحترام تركيا، بل ودعم وساطتها الصادقة والنزيهة بين طرفي الأزمة، والتي يمكن التعويل جدياً عليها.

وقد رأينا تأكيداً على ذلك في أسبوع الدبلوماسية المكثّف منتصف شهر مارس الجاري إذ هرع لزيارتها الرئيس الأذربيجاني ورؤساء وزراء ألمانيا واليونان وأمين عام الناتو ووزير خارجية أرمينيا، إضافة إلى اتصال الرئيس الأمريكي جو بايدن المطوّل مع الرئيس رجب طيب أردوغان بعد جفاء لعدة شهور، كما رعاية تركيا أول لقاء رفيع المستوى بين روسيا وأوكرانيا على مستوى وزراء الخارجية وذلك ضمن فعاليات منتدى أنطاليا الدبلوماسي مع الانتباه إلى النشاط الأفغاني الواسع على هامش المنتدى بحضور وفد حكومة طالبان ورعاية تركية أيضاً، وعلى قاعدة عدم الاكتفاء بالشق الإنساني وإنما ضرورة الانتباه إلى القاعدة السياسية لحل مشاكل أفغانستان، علماً أن تركيا هي الأولى في تقديم المساعدات التي تصل تقريباً إلى نصف ولايات البلاد الـ34.

وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو عبر عن الوقائع بدقة بتصريحه الاثنين الماضي أنه يدعم الوساطة بالمطلق والمفاوضات التي دفعت بها تركيا إلى الأمام كونها ليست حليفاً بالناتو فحسب، بل دولة مهمة للحوار الهادف إلى حثّ الطرفين، الروسي والأوكراني، على التوصل إلى اتفاق سلام.

القرار السيادي المستقل الذي يعبّر عن إرادة سياسية صلبة ما كانت لتتحقق قطعاً لولا تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتخلص من أعباء الديون والارتهان لمساعدات القوى الخارجية، ووضع الاقتصاد التركي بين الاقتصادات الكبرى العشرين في العالم مع هدف طموح بنقله إلى العشر الأوائل في المدى القريب.

ومن منظور الأزمة الأوكرانية أيضاً بدا الاستقلال الاقتصادي حاضراً عبر تنويع مصادر الطاقة، واستخدام قدرات وإمكانيات وثروات البلاد وموقعها الاستراتيجي كي تتحوّل من مستهلك إلى منتج ومصدر مهم للطاقة إلى أوروبا، وإحدى الحلول الناتجة عن مقاطعة أوروبا لقطاع الطاقة الروسي، وهذا ما تحدّث عنه تحديداً رئيس الوزراء الألماني أولاف شولتس أثناء زيارته لتركيا الأسبوع الماضي، إضافة بالطبع إلى تقدير الوساطة والجهود التركية لوقف الحرب.

وعلى سبيل التذكير، هذا ما كان ليحدث لو تم الارتهان مثلاً لمصدر واحد للطاقة أو رهن القرار السيادي بقيود خارجية تمنع البلاد من تنويع مصادرها وعلاقاتها السياسية والاقتصادية الجيدة مع روسيا وإيران رغم التباينات في ملفات عديدة. وعندما تم حجب قدرات التنقيب عن النفط والغاز في البحرين الأسود والمتوسط قامت تركيا بتصنيع سفنها ومعداتها التكنولوجية المتطورة بنفسها.

الأزمة الأوكرانية أكدت كذلك صوابية الاستقلال العسكري بمعنى التصنيع المحلي لأكبر عدد ممكن من الأسلحة والعتاد، وتوفير أكثر من ثلثي احتياجات البلاد على طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل.

في هذا السياق بدت طائرة "بيرقدار" المسيّرة رمزاً لتحول تركيا إلى قوة عسكرية كبرى، بينما عبّر الرئيس أردوغان عن المشهد ببلاغة بقوله: إن من يصنع طائراته المسيّرة يتحرر من العبودية في تحديث رائع للعبارة الشهيرة لتصبح من لا يملك قوته وسلاحه لا يملك قراره.

بالمقابل وفيما يتعلق بأوكرانيا، ورغم صمود ومقاومة الحكومة الديمقراطية المنتخبة في مواجهة الهجوم الروسي، فإنها افتقدت، وإن بدرجات متفاوتة، الاستقلال في أبعاده الثلاثة السياسية والاقتصادية والعسكرية بحيث بدت وكأنها تدفع سلبياً ثمن افتقاد المعطيات والمحددات السابقة.

فسياسياً، ما كان يجب على أوكرانيا الارتهان أو الاستلاب لمواقف الغرب وإغرائها بالانضمام إلى حلف الناتو رغم وعوده لروسيا بعدم التمدد شرقاً، إضافة إلى تقدير كييف غير الصحيح لرد فعل موسكو، علماً أنها عجزت أيضاً عن تقدير حقيقة النوايا الروسية تجاه الهجوم العسكري وبدت حائرة ومتخبطة في اللعب على أعصابها بين أمريكا وأوروبا.

اقتصادياً، ورغم الإمكانيات الكبيرة لأوكرانيا إلا أنها قبلت أيضاً بالارتهان للدعم والمساعدات الخارجية، ودولة مثلها كان يجب أن تكتفي ذاتياً بينما بدت أحياناً وكأنها تدفع ثمن عدم الاستقرار السياسي بوصفه الأساس للاستقلال الاقتصادي.

عسكرياً أيضاً، بدت كييف بحاجة إلى كميات كبيرة من السلاح حتى في أبسطها من قبيل مضادات الدبابات والطائرات، كما الأنظمة المضادة للصواريخ. ودولة مثلها تملك قدرات علمية تكنولوجية كان يجب أن تقوم بتصنيع غالبية سلاحها كي تتحرر من العبودية والارتهان للقوى الخارجية، وتتوقف عن التعلّق الشديد بأمريكا التي تحدد وبناءً على مصالحها المسموح والممنوع إرساله إلى كييف، ولا تمانع مقاتلة روسيا حتى آخر جندي بل مواطن أوكراني.

في صلب الموضوع نفسه وليس بعيداً عن الأزمة الأوكرانية ودروسها، قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا أنها تخشى على مصر، وذلك في سياق تعليقها على طلب القاهرة قرضاً آخر من الصندوق لمواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة، ومعلوم طبعاً أن لا أحد يمكنه استخدام هذا المصطلح "الخشية" تجاه تركيا رغم الأزمة الواقعة في محيطها الجيوبوليتيكي المباشر، غير أن أكبر دولة عربية تفتقد للأسف إرادة ومحددات الاستقلال وفق المعطيات والحقائق السالفة الذكر، لدرجة أنها طلبت وساطة إسرائيل في الحصول على قرض الصندوق إضافة إلى دعم سياسي واقتصادي من أمريكا أيضاً.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً