تابعنا
مع تزايد تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها، يبدو أن القوة الصلبة لروسيا بدأت تغري القوى الإقليمية أكثر.

"يكفي أن تتّخذ القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية قراراً، كما فعل قادة إيران، وهو شراء منظومة S-4300، أو كما فعل الرئيس أردوغان الذي اشترى من روسيا أحدث منظومة للدفاع الجوي S-400. بذلك سيتمكنون من حماية البنى التحتية في المملكة". بهذه الكلمات علّق الرئيس بوتين على سؤال ورادٍ بخصوص إمكانية مساعدة السعودية بعد هجمات أرامكو. جاء تعليقه مرفقاً بابتسامة ثقة عالية ارتسمت على وجهه متبوعة بضحكات وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بآخر اجتماع ثلاثي تم بأنقرة ضمّ كلاًّ من القادة أردوغان، وبوتين وروحاني.

يبدو أنّ ثقة الرئيس بوتين هذه نابعة من إدراكه العميق بأنّ بلاده دخلت مرحلة التفوّق النوعي على حساب منافسها الأول الولايات المتحدة، على الأقل في مثل هذه المجالات العسكرية الاستراتيجية التّي لم تبق كما كانت في الماضي حكراً على الغرب المتطوّر، خاصة بعدما أثبتت منظومات الدفاع الروسية في ساحات معارك الشرق الأوسط نجاعتها الردعية خلافاً لمنظومة باتريوت الأمريكية، حتّى صار حلفاء أمريكا أنفسهم يتقدّمون الواحد تلو الآخر بطلبات علنية وسرية لشراء منظومة S-400 الروسية.

بل لن يتوّقف الأمر في نظرنا مستقبلاً على مجرّد شراء بعض الدول للمنتجات العسكرية الروسية وحسب وإنّما قد تتجّه بعض منها إلى مُحاكاة النموذج الروسي في الحكم كما حدث ويحدث الآن في الجزائر، الأمر الذّي يجعلنا نتساءل في هذا المقال: هل تمكّنت روسيا-بوتين من خلق نموذج مغرٍ بالتقليد بوسائل تقليدية محضة؟ أو بالأحرى، هل ولّد الروس من القوة الصلبة جاذبيتهم الخاصّة على المسرح الدولي خلافاً لما هو مألوف؟

منذ أن صكّ جوزيف ناي مصطلحه الأشهر "القوة الناعمة"، ارتبط مدلول الجاذبية بالأدوات الثقافية والقيمية التّي تولدها الدول عبر تطوير نماذج خاصّة تجعلها مغرية بالاتّباع والإذعان، كوسيلة تُحقّقُ عبرها الدول في سلوكاتها الخارجية النتائج التّي تريدها، وبتكاليف أقلّ من دون أن تضطر إلى استخدام وسائلها العسكرية (أي قوتّها الصلبة) التّي تكون في العادة مكلفةً جدّا.

لقد أحدث هذا المفهوم مذ ذاك الحين أثراً كبيراً على المستويات الرسمية والأكاديمية، فكثير من الدول اتجّهت للبحث عن مصادر قوتّها الناعمة 'لتضرب في السياسة الدولية بقوة وبتكاليف أقل". لكن ما تفعله روسيا اليوم يبدو مختلفاً، كلاسيكيا جداً، إنّها تولّد جاذبيةً جديدة من مصادر تقليدية للقوة بشكلٍ صار مغرياً بالجذب والمحاكاة.

تُعتبر كلّ من الصين، وسوريا، وإيران، والجزائر –وإلى حد ما تركيا وباكستان- نماذج راهنةً عن دول تتجّه إلى محاكاة النموذج الروسي في القيادة أو التسلّح أو حتّى في طبيعة التصوّرات الاستراتيجية الكبرى لها.

قد يبدو الأمر أكثر وضوحاً بمراجعة العقائد العسكرية لهذه الدول ومقارنتها أو من خلال مقارنة القيم والهواجس المُحرّكة لنخبها الحاكمة، أو بمقارنة الثقافة السياسية لدى شعوب هذه الدول (نظرتها للديمقراطية الليبرالية مثلاً)، أو كما ذكرنا في مقال آخر هنا من خلال ملاحظة العلاقة القائمة بين جغرافية هذه الدول وطبيعة نظم حكمها.

وبالرغم من التفوّق العسكري الأمريكي العالمي إلا أن التكنولوجيا العسكرية الأمريكية لا تغري اليوم بالاقتداء والاقتناء كما تفعل نظيرتها الروسية. ربما لكوْن الولايات المتحدة بترسانتها الخارقة لم تبق بالنسبة لدول كثيرة مصدراً للأمن والأمان، خلافاً لروسيا التّي تحرص دول كثيرة كالتّي ذكرناها آنفاً على إبقاء أو نسج علاقات إستراتيجية معها.

ربّما يرجع ذلك إلى الالتزام الروسي العملي بالدفاع عن الحلفاء كما حدث مع النظام السوري مؤخّرا، في مقابل السلوكات الأمريكية عبر التاريخ في خذلان حلفائها لحظات الحاجة المُلحّة، والاستثمار لصالحها في الأزمات التّي يتعرض لها هؤلاء الحلفاء عبر أسلوبها المعهود في إدارة الأزمات لا حلّها، خاصّة منذ وصول ترمب للبيت الأبيض وتبنّيه لمبدأ "أمريكا أولا" وهو المبدأ الذّي يجعل الولايات المتحدة تسحب تدريجيا التزاماتها من مناطق عديدة في العالم، الأمر الذّي يثير مخاوف حلفائها التقليديين الذين يعتمدون بشكل حسّاس على الوجود العسكري الأمريكي على أراضيهم أو في جوارهم الإقليمي. مخاوف زادت من جدّيتها خطابات ترامب الحادّة تجاه اليابان، كوريا الجنوبية، الدول الحليفة في بحر الصين الجنوبي، وأوروبا الغربية، فضلاً عن حلفائها الخليجيين.

لقد أشار الباحث بيركشير ميلر(Miller J, Berkshire)في إحدى مقالاته إلى خطورة تعرّض المصداقية الأمريكية في مثل هذه الأقاليم الحسّاسة إلى التآكل، مُحيلاً المتابعين إلى تصريح ذي دلالة مخيفة لرئيس الوزراء السنغافوري بشأن احتمال تخلّي واشنطن عن اتفاقية التجارة الحرة بينهما.

غالباً سوف يُساهم التراجع النسبي للولايات المتحدة لا محالة في تنامي جاذبية القوى الصاعدة على غرار روسيا والصين. جاذبية أساسها "الرغبة أو الرهبة" لا يهم، لكنّها جاذبية تجعل كثيراً من القوى الثانوية والمتوسطة على المسرح الدولي تلتّف حول هذه الدول وتنحو إلى تقليد نموذجها في الحكم والدفاع.

هذا ما يتّفق معه الأستاذ كويك(Kuik Cheng-Chwee)حينما يرى "أنّ تنامي قوة الدولة الصاعدة قد يكون مصدراً لتصاعد مخاوف الدول الصغرى لكنّه في الوقت نفسه قد يكون مصدر جذبٍ وإغراء لها تجاه هذه القوة"، كما أنّ ما يجعل القوة الصاعدة (على غرار روسيا) قوة جذّابةً أو مخيفةً بالنسبة للدولة الصغيرة هو تدخّل عامل آخر متعلّق بالنخبة ومدركاتها على المستوى الداخلي لكلّ دولة، وإرادتها الذاتية في شرعنة وتبرير وكسب التعاطف مع السلطة السياسية الداخلية التّي تقودها، كما حدث تماماً في الدول آنفة الذكر.

سوف تستمر القوة الصلبة الروسية في الجذب ودفع الآخرين إلى محاكاة خيارات الدفاع الروسية. تصوّرات الروس عن الأمن والسلم العالميين، بل وحتّى محاكاة النموذج الذّي ضربه بوتين في الحكم على المستوى الداخلي أيضاً، ما دامت النخبة الروسية الحاكمة سائرة في تطوير نموذج حكم خاصّ مستقر يحقّق إزدهاراً نسبياً على المستوى الداخلي، ونجاحاً نسبياً في تحدّي الهيمنة الأحادية للولايات المتحدّة على المستوى الخارجي، واللعب بخطوات عقلانية براغماتية من دون خذلان ثقة الحلفاء والأصدقاء.

قد تتوقّف قوّتك الناعمة عن الإشعاع لمجرّد ارتكاب خطأ جسيم، كما قد لا تكفي قوتّك العسكرية الخارقة وحدها لتكون جذّابا، لكن إذا ارتبطت قوتك العسكرية بإلتزام جدّي تُبديه تجاه الأصدقاء فستصير ذا هيبةٍ جاذبةٍ في عالم يبقى فيه الأمن والبقاء أوليةً حيويةً لدى الدول. هذا ما تُعلمنّا إيّاه جاذبية القوة الصلبة المهيبة لروسيا المعاصرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً