تابعنا
عمد الاحتلال إلى تعميق حربه ضد القدس في أبعاد عدّة، يمكن اختصارها في العناوين الآتية: حصار المسجد الأقصى، عمليات الإعدام والاعتقال والترهيب، استهداف التعليم وطلبة المدارس، تهديد البيوت الآمنة وقطع الأرزاق من خلال عمليات الهدم المتواصلة.

قبل طوفان الأقصى بعامين كانت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة قد استلّت سيفها لأجل القدس في لحظة حسمت غاية المواجهة والقتال، فبينما سعى الاحتلال ووكلاؤه إلى تسييج العمل العسكري وحصار أفقه السياسي، نجحت فصائل المقاومة في كسر هذا الحصار رسمياً بإشعال معركة سيف القدس 2021.

منذ تلك اللحظة وكأنما القدس بهبّتها الشعبية مدّت يدها لغزة المحاصرة لتمنح المقاومة الزخم الأكبر على مستوى الشرعية السياسية، فيما اخترقت المقاومة بصواريخها كلّ أداةٍ جُيّرت لخنق أنفاس مليونين و200 ألف غزيّ، لتعيد القدس عنواناً ومركزاً لمعارك غزة.

على مدار ثلاثة أشهر من إعلان الاحتلال حالة الحرب في عموم فلسطين بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تتردد على مسامعنا مقولة أن الحكومة الإسرائيلية تستغل انشغال الإعلام والرأي العام العالمي بالعدوان على غزة، من أجل ممارسة أفظع الانتهاكات وفرض وقائع جديدة في الضفة الغربية والقدس.

بالطبع المقولة صحيحة في شقّها الثاني، إذ أخذ الاحتلال في تعميق سياساته الإرهابية ضد كلّ الجبهات، لكن ليس لأن العالم مشغول بما يجري بغزة؛ فشلال الجرائم التي يرتكبها في القطاع لا تشي بأي اعتبار إسرائيلي للرأي العام العالمي.

الاحتلال لم يبدأ بإنفاذ سياساتٍ جديدة في القدس أو الضفة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل أخذ بتعميق هذه السياسات وتكثيفها مع تشديد القبضة الحديدية على مدينة القدس بشكل خاص من أجل تحقيق هدف مرتبط بالحرب بشكل مباشر، إذ يريد العدوّ أن يقول للمقاومة في قطاع غزة: إن القدس التي تقاتلون لأجلها تخضع للسيادة والقبضة الإسرائيلية، والمسجد الأقصى الذي تضعونه عنواناً لمعارككم أضحى معبداً للمستوطنين، وشبه مغلق أمام الفلسطينيين.

ومن جهة ثانية يريد الاحتلال أن يقول للمقدسيين: إن هذه المقاومة التي توجهون النداء إليها في هتافاتكم "منشان الله، يا غزة يلا" أضرّت بمصالحكم وضيّقت عليكم وأغلقت أبواب أقصاكم، وبذا فإن الهدف الرئيسي من تشديد الخناق هو رفع كلفة معادلة "غزة-القدس" وعملية طوفان الأقصى إلى الحدّ الأعلى بما يتجاوز دفع الثمن في قطاع غزة الذي يتعرّض لأقسى حرب إبادة عرفها التاريخ الحديث.

من هنا عمد الاحتلال إلى تعميق حربه ضد القدس في أبعاد عدّة، يمكن اختصارها في العناوين الآتية: حصار المسجد الأقصى، عمليات الإعدام والاعتقال والترهيب، استهداف التعليم وطلبة المدارس، تهديد البيوت الآمنة وقطع الأرزاق من خلال عمليات الهدم المتواصلة، خنق الحياة اليومية في أدّق تفاصيلها، وتوسيع المشاريع الاستيطانية. تالياً سنفصّل جزءاً من هذه العناوين.

حصار المسجد الأقصى

يشتغل الاحتلال منذ عقود على مراكمة اعتداءاته بحق المسجد الأقصى من خلال حملاتٍ منظمة تقودها عصابات "الهيكل المزعوم" في سبيل تحويل مسجد المسلمين إلى معبد يهوديّ، وقد قطع الاحتلال شوطاً كبيراً في فرض "وقائع" جديدة في ما يخص الأقصى.

وربما يُعَدّ عام 2023 العام الأقسى من حيث مستوى التهديد للمسجد الأقصى الذي يزداد غربةً عن الوصاية الأردنية الإسلامية يوماً بعد آخر في ظل الهجمة على حراس المسجد وصمت مجلس الأوقاف الإسلامية وعجزه عن المواجهة والحماية.

وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان الأقصى (وهو قِبلة الطوفان) وجهةَ الاحتلال الأولى في حربه على القدس، إذ يواصل حتى اللحظة فرض تقييدات مشددة على أبواب المسجد مقلِّصاً بذلك عدد المصلين إلى الحد الأدنى منذ احتلاله عام 1967، فقد بلغ متوسط عدد المصلين خلال معركة طوفان الأقصى 5 آلاف مصلٍ، بعد أن كان يصل متوسط تعداد المصلين في الجُمع العادية إلى 50 ألفاً.

ويأتي ذلك بسبب تشديدات الاحتلال على أبواب المسجد الأقصى، واقتصار الدخول على كبار السن وساكني البلدة القديمة، ومنع جميع سكان الضفة الغربية -حتى كبار السن والنساء- من عبور الحواجز نحو القدس، بالإضافة إلى حملة الاعتقالات بحق المرابطين التي سبقت عملية طوفان الأقصى واستمرّت بعدها، كما أن عملية الترهيب التي تعرّض لها المقدسيون والفلسطينيون بالداخل ساهمت بشكل واضح في التزام الناس منازلها، خصوصاً خلال الشهرين الأولين.

في المقابل لوحظ في الجمعتين الأخيرتين من عام 2023 ارتفاع أعداد المصلين إلى نحو 12 ألف مصلٍ، نتيجة خفوت حالة الخوف في نفوس الناس، وظهور مبادرات لكسر الحصار عن الأقصى مثل دعوات إحياء "مليونية الأقصى".

استهداف التعليم والطلبة

تُعَدّ قضية التعليم من أكثر الملفات خطورةً وأهميةً في القدس، إذ يشنّ الاحتلال منذ سنوات طويلة "حرب المنهاج"، نجح خلالها في فرض المنهاج الإسرائيلي على عددٍ من مدارس القدس. كان لتلك الحرب أسس قويّة مكنّت الكنيست من صرف وقتٍ وجهدٍ في أثناء معركة الطوفان، في بحث إمكانية إغلاق المدارس الفلسطينية بالقدس في زمن الحرب تحت حجة "التحريض على الإرهاب".

جاءت تلك المشاورات فيما كانت شرطة الاحتلال تلاحق طلبة المدارس وتعتدي عليهم وتفتّش حقائبهم بحثاً عن المنهاج الفلسطيني، لا سيما طلبة مدارس الأقصى، في حين شهد الشهر الثاني من فترة طوفان الأقصى الخطوة الأكثر خطورة في هذا السياق، وهي إغلاق مدارس ورياض الأقصى الإسلامية داخل الأقصى لأول مرة ولمدة أسبوع، بحجة كتابة كلمة "حماس" على أحد جدرانها.

وقد يمهد الإغلاق المؤقت إلى إغلاق نهائي، في ظلّ أن ما تسمى وزارة المعارف الإسرائيلية أصدرت فعلياً، العام الماضي، قراراً بسحب الترخيص الدائم من 6 مدارس في القدس لمدة عام، كما أن سلطات الاحتلال تهدد أصلاً بإغلاق 3 مدارس توجد بباحات المسجد الأقصى، وهما ثانوية الأقصى الشرعية للذكور وثانوية الأقصى للإناث، اللتان تتبعان لدائرة الأوقاف الإسلامية، ومدرسة ورياض الأقصى، وهي خاصة، إذ يتعلم في كلّ مدرسة مئات الطلبة المقدسيين من البلدة القديمة.

وبذا ينصبّ جزءٌ كبير من هجمة الاحتلال على المدارس في حربه ضد المسجد الأقصى، فهو باستهدافه لطلبة البلدة القديمة يحاول تفريغ المسجد من عوامل إحيائه، خصوصاً في ساعات الصباح وخلال فترات الاقتحام. والاحتلال إنْ لم يُجبِر الطلبة على التزام بيوتهم، يعتقلهم ويُصدر بحقهم أحكاماً بالسجن الفعلي أو المنزلي، في محاولة لتحييد "شباب القدس" الذين كان لهم الدور الأساسي في هبّات القدس الأخيرة، تحديداً هبّة باب العامود في أبريل/نيسان 2021.

خنق الحياة اليومية

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول بذل الاحتلال كلّ جهده من أجل تخويف المقدسيين عبر تقصّد شهر عمليات التنكيل والاعتقال الوحشية. كما نجح في الأيام الأولى في نشر روايات كثيرة، أغلبها حقيقي وجزءٌ منها مُتخيَّل، حول تعرُّض أشخاص للطرد من العمل أو الاعتداء من الزملاء اليهود، وإرهاب المستوطنين، وتفتيش الهواتف النقالة، والاعتقال على خلفية الإعجاب بمنشور على فيسبوك، وغيرها.

شكّل هذا الجوّ من الترهيب مدخلاً سهلاً لحصر هموم المقدسيّ في كيفية الحفاظ على حياته ومصدر رزقه إلى درجةٍ جعلته يحتمل كمّاً هائلاً من مشقّة التنقل والوصول إلى العمل نتيجة التضييق والإغلاق في الطرقات، من دون احتجاج يُذكر.

يُضطر الموظف أو العامل المقدسي إلى الانتظار على الحواجز لساعات، وهو يتأمل من نافذة سيارته مئات الأعلام الإسرائيلية التي ملأت بها سلطات الاحتلال شوارعَ المدينة في محاولة لإعلان سيادة مهزوزة ومزيّفة جرى ضربها في مقتل بعد شروق السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

حوصرت حياة المقدسيين على أبسط المستويات، إذ بات يُمنع الجلوس على مدرجات باب العامود، وهنا يهدف الاحتلال أيضاً إلى سحب منجز هبّة باب العامود التي أشعلها شبّان القدس لاسترداد حيّزهم الاجتماعي والاقتصادي. كذلك تنشط شرطة الاحتلال داخل الأحياء المقدسية في ساعات المساء لمنع أيّ تجمّعٍ شبابيّ (حتى لو اقتصر على شخصين)، واستعداداً لعمليات القمع خلال المواجهات التي قد تندلع في أيّ لحظة، خصوصاً في أحياء سلوان، والعيسوية، وجبل المكبر، ومخيم شعفاط.

وعلى المستوى الاقتصادي تشهد الحركة التجارية في أسواق القدس ركوداً جعل القدس تبدو في الأسابيع الأولى مدينة أشباح، ووفق معطيات بلدية الاحتلال فقد ارتفعت نسبة الباحثين عن عمل في القدس المحتلة إلى 500%، علماً بأن 70% من المقدسيين كانوا يعيشون تحت خط الفقر قبل ذلك.

من ناحية أخرى، يزيد الاحتلال الحصار الاقتصادي على الأسرى المحررين في القدس، فخلال عام 2023 وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول استولى الاحتلال على أموال وممتلكات أكثر من 87 أسيراً ومحرراً مقدسياً، بحجة تلقيهم مستحقات من قبل حركة حماس والسلطة الفلسطينية.

التوسع الاستيطاني وسياسة الهدم

مشاريع الاستيطان واحدة من السياسات التي لا تتوقف أو تتعطل أيّاً كان الظرف، باعتبار أن كيان الاحتلال قائمٌ في جوهره على السعي الدائم للتوسع والتمدد، فهو إن توقّف عن ذلك لحظةً عطّل جزءاً كبيراً من ركائز وجوده. في فترة الطوفان ذهب الاحتلال بعيداً في مشاريع الاستيطان بالقدس، منها ما اعتبر غير مسبوق منذ أكثر من 10 سنوات.

وجرى إقرار بناء مستوطنة القناة السفلية على أراضي بلدة صور باهر، لتربط ما بين مستوطنة هارحوما "أبو غنيم" والمستوطنات جنوبي المدينة المحتلة، ما يعني عزل شمال القدس عن جنوبها، وتُعَدّ هذه أول مستوطنة تقرها سلطات الاحتلال منذ عام 2012، إذ درجت في السنوات الماضية على توسيع المستوطنات القائمة.

وفي إطار سياسة التهجير نفذ الاحتلال خلال عام 2023 نحو 300 عملية هدم في عدّة مناطق بالقدس، عددٌ كبير منها خلال الطوفان، ففي الأسابيع الأولى بدا المشهد في سلوان وجبل المكبر والعيسوية كأنه انعكاسٌ في مرآةٍ مصغّرة لما يجري من هدمٍ وتدميرٍ في قطاع غزة.

في العموم، تنطوي عمليات الهدم على بُعدين، الانتقام والعقاب من جهة، والتهجير من جهة أخرى. وخلال عام 2023 هُدمت 7 منازل في سياق عقاب أهالي الشهداء والأسرى من منفذي العمليات الفدائية، بينها 4 هُدمت خلال معركة الطوفان.

دم المقدسيين يختلط بالطوفان الهادر

منذ سنوات طويلة لم نتمكن من التقاط معالمَ واضحة لجسمٍ سياسي أو مجموعةٍ أو حراكٍ يحمل على عاتقه مسؤولية مباشرة في تحريك الشارع المقدسيّ، في ظلّ ما تعرّض له المجتمع المقدسيّ من تفتيت على المستويين السياسي والاجتماعي. لكنّ هذه المدينة لم تتوقف يوماً عن ممارسة دورها باعتبارها مركزاً للصراع، فالحجر الذي يُرمى أو الرصاص الذي يُطلق أو السكين التي تُشحذ تكتسب دائماً معانيَ أكثر قيمةً حين يواجهها الاحتلال في القدس على وجه الخصوص.

بعد أقل من 3 أيام على بدء معركة الطوفان، بدأ الدم المقدسي ينزف فداءً لغزة، وكان الشهيدان علي العباسي وعبد الرحمن فرج أول من طرق باب المواجهة عندما استهدفا البؤر الاستيطانية خلال مواجهاتٍ في بلدة سلوان المنكوبة بالهدم والاعتقال والاستيطان.

وبعدها بيوم واحد افتتح الشهيد خالد محتسب عمليات طوفان الأقصى داخل القدس عندما أطلق النار على مركزٍ لشرطة الاحتلال قرب باب الساهرة وأصاب 6 عناصر. وأعلنت كتائب الشهيد أبو علي مصطفى مسؤوليتها عن العملية، وهو أمرٌ نادر في سياق القدس.

وقد بلغ عدد العمليات في القدس منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول نحو 7 عمليات، كانت عملية الأخوين مراد وإبراهيم نمر في راموت الأكثر إيلاماً بينها، من حيث إنها أوقعت 3 قتلى وعدداً من الجرحى. والأهم أنها متبنّاة من كتائب القسام التي يحاول الاحتلال القضاء عليها في غزة، فتخرج له في القدس والضفة الغربية (في عملية بيت ليد قرب طولكرم).

في زمن الطوفان، ارتقى حتى اللحظة نحو 35 شهيداً مقدسياً، ليرتفع بذلك عدد الشهداء خلال 2023 إلى 47 شهيداً (بما يشمل مقدسيين مبعدين إلى غزة)، وهو العدد الأعلى خلال العقد الأخير في القدس.

منذ هبّة "محمد أبو خضير" عام 2014 والقدس تختزن طاقةً ثوريةً تجعلها قادرة بين الحين والآخر على توليد فعلٍ مؤثّرٍعلى الأرض، من دون أن تبرز معطيات كثيرة لتساعدنا في أن نتوقع متى وكيف، فيما تبقى القدس المدينة التي لا تتوقف عن مقاومة الزيف وإعادة الأشياء إلى حقيقتها. هي المدينة التي تباغتنا بثورتها وهدوئها، هي التي تمنح النصر أو الهزيمة معنى.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً