فتح هذا التحول الباب لدخول أنقرة إلى السوق العسكرية الأمنية في إفريقيا بقطاعاتها المتنوعة، لكنه في الوقت نفسه أطلق أجراس الإنذار في العواصم المنافسة، حيث يلقي التنافس في العديد من الملفات خارج القارة وداخلها بظلاله على قوس يمتد من شرق القارة إلى غربها إلى شمالها.
الصومال والمنافسة الجيوستراتيجية
يتمتع الصومال بموقع جيوبوليتيكي فريد على مفترق طريق البحر الأحمر والمحيط الهندي وخليج عدن، وقد ترسخ حضور أنقرة فيه من خلال المساعدات الإنسانية والتنموية والتعليمية، حتى أصبح أبرز مواقع النفوذ الجيوسياسي التركي في القارة الإفريقية.
النجاح التركي في الصومال أدى إلى دخول القوى الإقليمية المنافسة كالإمارات إلى ساحته، في محاولة للاستفادة من موقعه الفريد وإضعاف نفوذ أنقرة. وأمام زيادة حدة التنافس وتصاعد خطر المجموعات الإرهابية افتتحت أنقرة قاعدة عسكرية في مقديشو بقيمة 50 مليون دولار في 30 سبتمبر/أيلول 2017، تركزت فيها قيادة فرقة العمل التركية المكونة من 300 فرد مهمتها الأساسية تدريب الضباط وضباط الصف الصوماليين، ومن المخطط في هذا السياق تدريب ما لا يقل عن 10000 جندي صومالي سنوياً.
والعام الماضي احتفلت مقديشو وأنقرة بمرور عقد على إحياء علاقاتهما الدبلوماسية إثر زيارة رئيس الوزراء التركي، حينها، رجب طيب أردوغان للبلاد، والتي كانت نقطة البدء لنشاط كبير للمؤسسات التركية في الصومال على صعد مختلفة تنموية وإنسانية وإغاثية واقتصادية. تعزيز الوجود العسكري و الأمني يمثل أهمية لتركيا فيما يخص حماية الشركات التركية المستهدفة الموجودة في الصومال.
غرب إفريقيا.. الصراع الفرنسي التركي يشتعل
وفقاً لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام فإن تجارة المعدات العسكرية تستخدمها القوى الدولية المصدرة لزيادة نفوذها في إفريقيا جنوب الصحراء. وبهذا المعنى لم تصبح الصناعات الدفاعية عنصراً مهماً في تطوير علاقات أنقرة بدول القارة السمراء من خلال الاتفاقات العسكرية والأمنية فقط، بل عملت أنقرة في إطار رؤية أوسع أيضاً على اكتساب نقاط قوة تضغط بها على خصومها ومنافسيها وفي طليعتهم فرنسا.
وتعد منطقة غرب إفريقيا ودول الساحل مجال نفوذ تقليدي لباريس، وبالتوازي مع تزايد الخلافات الفرنسية التركية حول العديد من الملفات تصاعد الحضور التركي الصلب في المنطقة المذكورة.
في هذا الإطار كانت مجموعة من دول غرب إفريقيا من أهم مشتري السلاح التركي العام الماضي، كبوركينا فاسو التي زادت وارداتها من 92 ألف دولار إلى 8 ملايين دولار، وكذلك تشاد من 249 ألف دولار إلى 14.6 مليون دولار، والمغرب من 505 آلاف دولار إلى 82.8 مليون دولار، وجرى تصدير ما قيمته 63.9 مليون دولار إلى تونس بزيادة 645%.
كما وقعت تركيا اتفاقيات عسكرية أمنية مع العديد من دول المنطقة كالسنغال ومالي وموريتانيا وتشاد والنيجر، تضمنت تعاوناً في مجالات التسليح والتدريب ونقل الخبرات الأمنية.
يندرج هذا النشاط التركي ضمن مروحة متعددة الأوجه في المنطقة وقوبل بترحيب كثير من الأفارقة بأنقرة التي تجمعهم معها قواسم مشتركة أكثر من أوروبا أو روسيا أو الصين، والذين يميلون إلى رؤية تركيا كطرف أقل استبداداً من الاتحاد الأوروبي أو فرنسا، وكشريك له المصالح نفسها. وفقاً لورقة صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية المرموقة صيف 2021 .
فصانعو السياسات ورجال الأعمال في منطقة الساحل يشعرون بالاستياء حيال اعتماد المنطقة على المساعدات الأوروبية والدعم العسكري الفرنسي، ويقولون إنهم مهتمون بتنويع التحالفات، بخاصة وأن الدول الغربية موجودة في النزاعات داخل القارة، بينما تغيب دول عربية أو إسلامية مثل تركيا.
وفي دولة النيجر أبدى مسؤول دفاعي رفيع المستوى تفاؤله بشأن آفاق التعاون الدفاعي مع تركيا موضحاً أن "تبادل المعلومات الاستخباراتية وبناء القدرات والتدريب العسكري الذي تقدمه تركيا في إطار اتفاقية الدفاع سيكون عوناً كبيراً في تحسين الأمن"، في إشارة إلى الاتفاق الأمني الموقع بين أنقرة والنيجر يوليو/تموز عام 2020.
هذا التمدد الاستراتيجي التركي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا أثار القلق في أروقة صناعة القرار الفرنسي من تراجع نفوذها في العديد من المواقع المحسوبة تقليدياً ضمن "فلك" النفوذ الفرنسي.
هذه المخاوف وجدت أوضح تعبيراتها في ما صرح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واتهامه لتركيا بالسعي "إلى تعزيز المشاعر المعادية لفرنسا في إفريقيا".
وفي هذا الإطار يزداد قلق باريس في ظل فشل عملياتها العسكرية في المنطقة في القضاء على الحركات المسلحة هناك، حيث قادت فرنسا عملية سيرفال (2013) التي انتقدتها تركيا في حينه، كما أطلقت عام 2014 عملية برخان للهدف ذاته وانتهى بها المآل إلى إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو/حزيران 2020 إنهاءها.
السخط الشعبي على إخفاق فرنسا في تحقيق الاستقرار جسدته مظاهرات الماليين المتكررة المطالبة بخروج القوات الفرنسية من بلادهم، حيث يرى قطاع عريض من الأفارقة في منطقة الساحل أن توسع النشاط العسكري الفرنسي مرتبط باستمرار شبكات الفساد في الطبقات السياسية الداخلية لدولهم، مما يُساهم في تصاعد نشاط الجماعات المسلحة التي تتخذ من محاربة الوجود الفرنسي والغربي عموماً ذريعة دائمة للاستمرار.
القطاع العسكري التركي يحمي استثمارات أنقرة الحالية والمستقبلية
شهدت السنوات الأخيرة نقلات كبيرة في حجم الاستثمار التركي في القارة الإفريقية، ولجأت أنقرة إلى حماية بعض تلك الاستثمارات من خلال القوة الصلبة .
في هذا السياق باعت تركيا، على سبيل المثال، إلى الحكومة الإثيوبية أسلحة بقرابة 95 مليون دولار خلال العام الماضي، حيث استطاعت أديس أبابا من خلال هذه الأسلحة قلب موازين القوى ودفع خصومها من التغراي إلى داخل حدود إقليمهم.
تعد أنقرة ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا التي تعاني حرباً عنيفة منذ ما يزيد على عام وشهرين تهدد مستقبل الدولة الإثيوبية بما ينعكس بالضرورة على المصالح التركية القائمة في البلاد، وهنا لا يمكن فصل البعد الجيواقتصادي عن البعد الجيوستراتيجي بالنظر إلى العلاقات التركية الإثيوبية الوثيقة في إطار الصراع على سد النهضة والهيمنة الجيوسياسية في وادي النيل بين أديس أبابا والقاهرة.
وبالانتقال من شرق القارة إلى شمالها مثّل اكتشاف احتياطيات هائلة من الغاز في شرق البحر المتوسط بارقة أمل لتركيا التي تعاني نتيجة ضعف مواردها الطاقوية من فاتورة مرتفعة لاستيراد الغاز، وهو ما جرى تهديده من خلال استبعاد تركيا من المشاركة في منتدى غاز شرق المتوسط.
قطع الطريق على هذا التحرك اليوناني الإسرائيلي المصري كان من ضمن دوافع أنقرة إلى توقيع اتفاقيات مع حكومة الوفاق الوطني الليبية تضمنت ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وتقديم مساعدات عسكرية حاسمة أدت إلى قلب موازين المعركة على أسوار طرابلس بما يحفظ لأنقرة حقوقها في الاستثمارات البحرية المستقبلية.
وبنظرة شاملة لا يمكننا حصر التعاون التركي المتصاعد عسكرياً وأمنياً مع دول القارة الإفريقية في البعد الاقتصادي منفرداً، حيث تبرز تحركات أنقرة لإدراجه ضمن استراتيجية أوسع يعد "التحاور الصلب" مع منافسيها أحد أبرز أدواتها.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.